وقد جمع الله لِلْقُرْآنِ الصِّفَتَيْنِ مَعًا: فَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى أُنْزِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السماء الدنيا، ثم أنزل بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ والحوادث. روي عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، قَالَ الله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾، وقال تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تنزيلا﴾ (أخرجه النسائي بإسناده عن ابن عباس).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ سُوءِ حَالِ الْكُفَّارِ فِي مَعَادِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَشْرِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فِي أَسْوَأِ الْحَالَاتِ وَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ، ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يمشيه على وجهه يوم القيامة».
- ٣٥ - وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا
- ٣٦ - فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا
- ٣٧ - وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا
- ٣٨ - وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا
- ٣٩ - وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً
- ٤٠ - وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا
يَقُولُ تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً ﷺ من مشركي قومه وَمُحَذِّرَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، مِمَّا أَحَلَّهُ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ؛ فَبَدَأَ بِذِكْرِ مُوسَى وأنه بعث وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا أَيْ نَبِيًّا مُوَازِرًا وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا، فَكَذَّبَهُمَا فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَـ ﴿دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِقَوْمِ نُوحٍ حِينَ كَذَّبُوا رَسُولَهُ نوحاً عليه السلام، ولهذا قال تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ﴾ وَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ إِلَّا نُوحٌ فَقَطْ، وَقَدْ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الله عزَّ وجلَّ وَيُحَذِّرُهُمْ نَقَمَهُ ﴿فَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾، وَلِهَذَا أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أحداً، ولم يترك من بني آدم على وجه الارض سِوَى أَصْحَابِ السَّفِينَةِ فَقَطْ، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ أَيْ عِبْرَةٌ يَعْتَبِرُونَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أَيْ وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنَ السُّفُنِ مَا تَرْكَبُونَ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، لِتَذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ من إنجائكم من الغرق، وقوله تعالى: ﴿وَعَاداً وثمود وَأَصْحَابَ الرس﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتَيْهِمَا فِي غَيْرِ ما سورة كسورة الْأَعْرَافِ بِمَا أَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الرس فقال ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى ثمود، وقال عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجٍ وَهُمْ أَصْحَابُ يس، وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة، وعن عِكْرِمَةَ: الرَّسُّ بِئْرٌ رَسَوْا فِيهَا نَبِيَّهَمْ، أَيْ دفنوه فيها.