في معرفة أحكامه ونزوله كل على قدر فهمه، ومبلغ عمله، فشكر الله تعالى سعيهم ورحم كافتهم، ثم خطر لي أن أقتفي أثرهم وأسلك طريقتهم لعل الله أن يرزقني من مددهم ويعود عليّ من بركتهم فتردّدت في ذلك مدّة من الزمان خوفاً من الدخول في هذا الشأن لقوله ﷺ «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وقول سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ «من قال في القرآن برأيه» وفي رواية بغير علم: «فليتبوّأ مقعده من النار» وقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما سئل عن قوله تعالى: ﴿وفاكهة وأبا﴾ (عيسى، ٨٠) فقال: «أيّ سماء تظلني وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم» إلى أن يسر الله تعالى لي زيارة سيد المرسلين ﷺ وعلى سائر النبيِّين والآل والصحب أجمعين في أوّل عام تسعمائة واحد وستين، فاستخرت الله تعالى في حضرته بعد أن صليت ركعتين في روضته وسألته أن ييسر لي أمري فشرح الله سبحانه وتعالى لذلك صدري فلما رجعت من سفري واستمرّ ذلك الانشراح معي، وكتمت ذلك في سرّي، حتى قال لي شخص من أصحابي: رأيت في منامي إما النبيّ ﷺ أو الشافعيّ يقول لي: قل لفلان يعمل تفسيراً على القرآن فعن قليل إلا وقد قرّرت في وظيفة مشيخة تفسير في البيمارستان ثم سألني بعد ذلك جماعة من أصحابي المخلصين وعلى اقتباس العلم مقبلين بعد أن رأوني فرغت من شرح «منهاج الطالبين» أن أجعل لهم تفسيراً وسطاً بين الطويل الممل والقصير المخل، فأجبتهم إلى ذلك ممتثلاً وصية رسول الله ﷺ فيهم فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنّ رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً» واقتداءً بالماضين من السلف في تدوين العلم إبقاءً على الخلف، وليس على ما فعلوه مزيد، ولكن لا بدّ في كل زمان
من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجدّ والجهد، تنبيهاً للمتوقفين، وتحريضاً للمتثبطين، وليكون ذلك عوناً لي وللقاصرين مثلي، مقتصراً فيه على أرجح الأقوال وإعراب ما يحتاج إليه عند السؤال، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية، وحيث ذكرت فيه شيئاً من القراءات فهو من السبع المشهورات، وقد أذكر بعض أقوال وأعاريب لقوّة مداركها أو لورودها ولكن بصيغة قيل ليعلم أن المرضي أوّلها وسميته «السراج المنير» في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، وأسأله من فضله وإحسانه أن يجعله عملاً مقروناً بالإخلاص والقبول والإقبال وفعلاً متقبلاً مرضياً زكياً يعدّ من صالح الأعمال، وقد تلقّيت التفسير بحمد الله من تفاسير متعدّدة رواية ودراية عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم، واشتهرت وانتشرت مآثرهم، جمعني الله وإياهم والمسلمين في مستقر رحمته بمحمد وآله وصحابته. وها أنا الآن أشرع وبحسن توفيقه أقول وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.
سورة فاتحة الكتاب
أي: المحكم. وقوله تعالى:
﴿أكان للناس﴾ أي: أهل مكة، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى: ﴿عجباً﴾ خبر كان، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة، ثم ذكر الحامل على العجب؛ وهو اسم كان بقوله تعالى: ﴿أن أوحينا﴾ أي: إيحاؤنا ﴿إلى رجل منهم﴾ أي: من أهل مكة ومن قريش، وهو محمد ﷺ يعرفون صدقه ونسبه وأمانته، قيل: كانوا يقولون: العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة، وهو لم يكن ﷺ يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال، وخفة المال أهون شيءٍ في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى﴾ (سبأ ٣٧)
﴿أن أنذر الناس﴾ عامّة، أي: أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره، وأن هي المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. ﴿وبشر الذين آمنوا﴾ إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به. ﴿أنَّ﴾ أي: بأنَّ. ﴿لهم قدم﴾ أي: سلف ﴿صدق عند ربهم﴾ اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقال ابن عباس: أجراً حسناً مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد: الأعمال الصالحة: صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن: عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء: مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرسول ﷺ وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر:

*صل لذي العرش واتخذ قدما ينجيك يوم العثار والندم
وهو مؤنث فيقال: قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى: ﴿قال الكافرون إنَّ هذا لسحر مبين﴾ قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنَّ الإشارة للقرآن المشتمل على ذلك، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء على أنّ الإشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿إنّ ربكم﴾ الموجد لكم والمربي والمحسن هو ﴿الله الذي خلق﴾ أي: قدّر وأوجد ﴿السموات والأرض﴾ على اتساعهما، وكثرة ما فيهما من المنافع ﴿في ستة أيام﴾ من أيام الدنيا، أي: في قدرها؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهما في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت. فإن قيل: إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فما المراد؟ أجيب: بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليومَ بليلته، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار، الواسع الانتشار، المفتقر إلى عظيم التدبير، ولطيف التصريف والتقدير؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي: ﴿ثم استوى﴾ أي: عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك. ﴿على العرش﴾ المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة، وليست ثم للترتيب، بل كناية عن علوِّ الرتبة، وبعد منازلها، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله: ﴿يدبر الأمر﴾
﴿ألا يكونوا﴾ أي: قومك ﴿مؤمنين﴾ أي: راسخين في الإيمان أي: لا تبالغ في الحزن والأسف فإن هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ ولو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً. والبخع: أن يبلغ بالذبح البخاع بالخاء والباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذابح. ولعل: للإشفاق أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إيمان قومك فصبره وعزاه وعرفه أن حزنه وغمه لا ينفع كما أن وجود الكتاب ووضوحه لا ينفع، ثم إنه تعالى أعلمه بأن كل ما هم فيه إنما هو بإرادته بقوله تعالى:
﴿إن نشأ ننزل عليهم﴾ وعبر بالمضارع فيهما إعلاماً بدوام القدرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون الثانية وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم قال تعالى محققاً للمراد ﴿من السماء﴾ أي: التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها بقوله تعالى: ﴿آية﴾ أي: قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه.
تنبيه: هنا همزتان مختلفتان، أبدل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية المفتوحة بعد المكسورة ياء خالصة، وحققها الباقون. ثم أشار تعالى إلى تحقق هذه الآية بالتعبير بالماضي في قوله تعالى عطفاً على ننزل لأنه في معنى أنزلنا ﴿فظلت﴾ أي: عقب الإنزال من غير مهلة ﴿أعناقهم﴾ أي: التي هي موضع الصلابة وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض ﴿لها خاضعين﴾ أي: منقادين.
تنبيه: خاضعين: خبر عن أعناقهم، واستشكل جمعه جمع سلامة لأنه مختص بالعقلاء؟ وأجيب عنه بأوجه: أحدها: أن المراد بالأعناق رؤساءهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال لهم الرؤوس والنواصي والصدور، قال القائل:
*في محفل من رؤوس الناس مشهود*
ثانيها: أنه على حذف مضاف أي: فظل أصحاب الأعناق ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف.
ثالثها: أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله:
*كما شرقت صدر القناة من الدم*
رابعها: قال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله كقولهم: ذهبت أهل اليمامة كأن الأهل غير مذكور، ونوزع في التنظير لأنّ أهل ليس مقحماً البتة لأنه المقصود بالحكم.
خامسها: أنها عوملت معاملة العقلاء، كقوله تعالى: ﴿ساجدين﴾ (يوسف، ٤) ﴿وطائعين﴾ (فصلت، ١١) في يوسف والسجدة، وقيل إنما قال تعالى: ﴿خاضعين﴾ لموافقة رؤوس الآي لتكون على نسق واحد.
﴿وما يأتيهم﴾ أي: الكفار ﴿من ذكر﴾ أي: موعظة أو طائفة من القرآن يذكروننا به فيكون سبب ذكرهم وشرفهم ﴿من الرحمن﴾ أي: الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم ﴿محدث﴾ أي: بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به وأشار تعالى إلى دوام كبرهم بقوله تعالى: ﴿إلا كانوا عنه معرضين﴾ أي: إعراضاً هو صفة لهم لازمة، ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال تعالى.
﴿فقد﴾ أي: فتسبب عن هذا الفعل منهم أنه قد ﴿كذبوا﴾ أي: بالذكر بعد إعراضهم وأمعنوا في تكذيبه بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به المخبر به عنهم ضمناً في قوله تعالى: ﴿وسيأتيهم﴾ أي: إذا مسهم عذاب الله تعالى يوم بدر ويوم القيامة ﴿أنباء﴾ أي: عظيم أخبار
﴿أرأيتم﴾ أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمّل وروية باطنة. ﴿ما تدعون﴾ أي: تعبدون ثم نبه على سفولهم بقوله تعالى:
﴿من دون الله﴾ أي: المالك الأعظم الذي كل شيء دونه فلا كفء له مفعول أوّل وقوله تعالى: ﴿أروني﴾ أي: أخبروني تأكيد وقوله: ﴿ماذا خلقوا﴾ مفعول ثان وقوله تعالى: ﴿من الأرض﴾ بيان لما أي: ليصح ادّعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء.
﴿أم لهم﴾ أي: الذين تدعونهم ﴿شرك﴾ أي مشاركة ﴿في﴾ خلق. ﴿السموات﴾ أي: بنوع من أنواع الشركة مع الله تعالى و ﴿أم﴾ بمعنى همزة الإنكار ولما كان الدليل أحد شيئين سمع وعقل قال تعالى: ﴿ائتوني بكتاب﴾ أي: منزل على دعواكم في هذه الأصنام: أنها خلقت شيئاً أو أنها تستحق أن تعبد.
تنبيه أبدل ورش والسوسيّ الهمزة من ﴿ائتوني﴾ في الوصل ﴿ياء﴾ وحققها الباقون. وأما الابتداء بها، فجميع القرّاء أبدلوها ياء بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورة.
﴿من قبل هذا﴾ أي: القرآن الذي أنزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوّة، فإنها كلها شاهدة بالوحدانية لو أتى بها آت لشهدت عليه. ولما ذكر تعالى الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به وهو: النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه فقال: ﴿أو أثارة﴾ أي: بقية ﴿من علم﴾ يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام: أنها تقرّبكم إلى الله تعالى: وقال المبرد: ﴿أثارة﴾ ما يؤثر من علم كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان. ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار. يقال: جاء في الأثر كذا وكذا. وقال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال؛ الأوّل: الأثارة واشتقاقها من: أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار. والثاني: من الأثر الذي هو الرواية. والثالث: من الأثر بمعنى العلامة. وقال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأوّلين أي: يسند إليهم وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء قال الرازي: وههنا قول آخر: أو أثارة من علم هو علم الخط الذي يخط في الرمل، والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور روي أنه ﷺ قال: «كان نبيّ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه» فعلى هذا الوجه معنى الآية ﴿أئتوني بعلم من قبل هذا﴾ الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وأقوالهم ودلائلهم. ثم أشار إلى تقريعهم بالكذب إذ لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله: ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي: عريقين في الصدق على ما تدّعون لأنفسكم. ولما أبطل سبحانه قولهم في الأصنام بعدم قدرتها أتبعه إبطاله بعدم علمها بقوله تعالى:
﴿ومن أضلّ﴾ وهو استفهام بمعنى النفي أي: لا أحد أضل ﴿ممن يدعو﴾ أي: يعبد ما لا قدرة له ولا علم. ومن انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل. وأرشد إلى سفولها بقوله عز وجل. ﴿من دون الله﴾ أي: من أدنى رتبة من رتب الذي له صفات الكمال فهو يعلم كل شيء. ويقدر على كل شيء فهو بحيث يجيب الدعاء، ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء، ويدبر عبده لما يعلم من سرّه وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل فيه إلى نفسه، وأجيب إلى طلبته، كان فيه حتفه فيدبره سبحانه بما تشتدّ كراهته له، فيكشف الحال على أنه لم يكن له فرج إلا فيه. ﴿من لا يستجيب له﴾ أي: لا توجد الإجابة، ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها، لأنه لا أهلية له لذلك.


الصفحة التالية
Icon