*يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا*
أي: بالمدّ، وقال جبير لما سأل الأسدي المسمى بفطحل:
*تباعد عني فطحل إذ سألته آمين فزاد الله ما بيننا بعدا*
فذكر مقصوراً وكان من حقه التأخير لأنّ التأمين إنما يكون بعد الدعاء ولكن قدّمه للضرورة وليس آمين من القرآن اتفاقاً بدليل أنه لم يثبت في المصاحف كما مرّت الإشارة إليه ولكن يسنّ ختم السورة به لقوله ﷺ «علمني جبريل عليه السلام آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة» كما رواه البيهقيّ وغيره، وقال ﷺ «إنه كالختم على الكتاب» كما رواه أبو داود في «سننه» وقال عليّ رضي الله تعالى عنه: آمين خاتم رب العالمين ختم به دعاء عبده، رواه الطبرانيّ وغيره لكن بسند ضعيف، يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر: «أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته». وعن الحسن لا يقوله الإمام لأنه الداعي، وعن أبي حنيفة مثله والمشهور عنه وعن أصحابه أنه يخفيه، والمأموم يؤمن مع إمامه لقوله ﷺ «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول: آمين وإن الإمام يقول: آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». زاد الجرجانيّ في «أماليه» وما تأخر. وأحسن ما فسر به هذا الخبر ما رواه عبد الرزاق عن عكرمة قال: صفوف أهل الأرض تلي صفوف أهل السماء، فإذا وافق تأمين من في الأرض تأمين من في السماء غفر للعبد، قال ابن حجر ومثل هذا لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله ﷺ قال لأبيّ: «ألا أخبرك بسورة لم ينزل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها؟ قال: بلى يا رسول الله قال: فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» رواه الترمذيّ وقال حسن صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «بينا نحن عند رسول الله ﷺ إذ ناداه منادٍ فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته» وما
رواه البيضاويّ عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ ﷺ قال: «إنّ القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب الحمد لله رب العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة» حديث موضوع.
سورة البقرة
مدنية
وهي مائتان وسبع وثمانون آية
الم * ذَالِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾ قال الشعبي وجماعة: ﴿ألم﴾ وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرّ القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله سبحانه وتعالى، وفائدة ذكره طلب الإيمان بها والسبب في ذلك أنّ العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش والله تعالى استأثر بعلم لا تقدر عليه عقول
يعود وباله عليها خاصة. قال ﷺ «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة». وروي «ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين». وعن ابن عباس: لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
*يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة فاربع فخير فعال المرء أعدله
*فلو بغى جبل يوماً على جبل لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى: ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ أي: لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها. ﴿ثم إلينا﴾ بعد البعث ﴿مرجعكم﴾ في القيامة ﴿فننبئكم﴾ أي: فنخبركم ﴿بما كنتم تعملون﴾ في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد، أي: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم. ولما قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا﴾ أتبعه بمثل عجيب ضربه لمن يبغي في الأرض، ويغتر بالدنيا، ويشتدّ تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، والتأهب لها، بقوله تعالى:
﴿إنما مثل الحياة الدنيا﴾ أي: حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها. والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل ﴿كماء أنزلناه﴾ وحقق أمره وبينه بقوله تعالى: ﴿من السماء فاختلط به﴾ أي: بسببه ﴿نبات الأرض﴾ أي: اشتبك بعضه ببعض، والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض ﴿مما يأكل الناس﴾ من الحبوب والثمار ونحو ذلك ﴿و﴾ مما يأكل ﴿الأنعام﴾ من الحشيش ونحوه ﴿حتى إذا أخذت الأرض زخرفها﴾ أي: حسنها وبهجتها من النبات ﴿وازينت﴾ بإظهار ألوان زهرها من أبيض وأصفر وأحمر وغيرذلك من الزهور، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين، وأصل ازينت تزينت أبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي ﴿وظنّ أهلها﴾ أي: أهل تلك الأرض ﴿أنهم قادرون عليها﴾ أي: متمكنون من تحصيل جذاذها وحصادها ﴿أتاها أمرنا﴾ أي: قضاؤنا من البرد والحرّ المفرط أو غيره ﴿ليلاً أو نهاراً﴾ أي: في الليل أو في النهار ﴿فجعلناها﴾ أي: زرعها ﴿حصيداً﴾ أي: كالمحصود بالمناجل. وقوله تعالى: ﴿كأن﴾ مخففة، أي: كأنها ﴿لم تغن﴾ أي: لم تكن ﴿بالأمس﴾ تلك الزروع والأشجار قائمة على ظهر الأرض، وحذف المضاف من فجعلناها ومن كأن لم تغن للمبالغة.
تنبيه: تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً:
الأوّل أنّ عاقبة هذه الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه؛ لأنّ الغالب أنّ المتمسك بالدنيا إذا وضع قلبه عليها وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله تعالى: ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾ (الأنعام، ٤٤) أي: خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة مع أنهم توجهوا إليها.
الثاني: أنه تعالى بيّن
وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء، والباقون بغير ألف، قال أبو عبيدة والزجاج: هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحذور وحاذر بمعنى، وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف.
قيل: الأول للتجدّد لأنه اسم فاعل، والثاني: للثبات لأنه صفة مشبهة وقيل: الحاذر المتبلج الذي له شوكة، السلاح وهو أيضاً من الحذر لأنّ ذلك إنما يفعل حذراً، يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر وأنه يجزئه أربعة أجزاء: أحدها: لوزرائه وكتابه وجنده والثاني: لحفر الأنهار وعمل الجسور والثالث: له ولولده والرابع: يفرّق في المدن، فإن لحقهم ظلم أو ظمأ أو اشتجار أو فساد غلة أو موت عوامل قوّاهم به، ويروى أنه قصده قوم فقالوا نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال فسأل عن مبلغ ما أنفقوه في خليجهم فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم فإنّ الملك إذا استغنى بمال الرعية يعني رعيته افتقر، وإن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا، ولما كان التقدير فأطاعوا أمره ونفروا على كل صعب وذلوا، عطف عليه قوله تعالى بما آل إليه أمرهم.
﴿فأخرجناهم﴾ أي: فرعون وجنوده بما لنا من القدرة من مصر ليلحقوا بموسى وقومه إخراجاً حثيثاً مما لا يسمع أحد بالخروج منه ﴿من جنات﴾ أي: بساتين كانت على جانبي النيل يحق لها أن تذكر ﴿وعيون﴾ أي: أنهار جارية في الدور من النيل، وقيل: عيون تخرج من الأرض لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر.
﴿وكنوز﴾ أي: أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوز لأنها لم يعط حق الله منها وما لم يعط حق الله تعالى منه فهو كنز وإن كان ظاهراً، قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب ﴿ومقام﴾ من المنازل ﴿كريم﴾ أي: مجلس حسن للأمراء والوزراء بحقه اتباعهم، وعن الضحاك: المنابر وقيل: السرر في الحجال، وذكر بعضهم أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب.
﴿كذلك﴾ أي: أخرجنا كما وصفنا ﴿وأورثناها﴾ أي: تلك النعم السنية بمجرّد خروجهم بالقوّة وبعد إغراق فرعون وجنوده بالفعل ﴿بني إسرائيل﴾ أي: جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستعبدين بين أيدي أربابها، واستشكل إرثهم لها بالفعل لقوله تعالى في الدخان ﴿قوماً آخرين﴾ (الدخان، ٢٨)
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في ذلك المحل. بل قيل: إنّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد ذلك ولما وصف تعالى الإخراج وصف أثره بقوله تعالى: مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوّة.
﴿فأتبعوهم﴾ أي: جعلوا أنفسهم تابعة لهم ﴿مشرقين﴾ أي: داخلين في وقت شروق الشمس بطلوعها صبيحة الليلة التي سار فيها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن ذلك على حكم العادة في أقل من عشرة أيام فإنه تعجز الملوك عن مثله، واستمرّوا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم.
﴿فلما تراءى الجمعان﴾ أي: رأى كل منهما الآخر ﴿قال أصحاب موسى﴾ ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم
﴿ما أرسلت به﴾ ممن لا مرسل في الحقيقة غيره، سواء أكان وعداً أم وعيداً أم غير ذلك. ولم يذكر الغاية؛ لأنّ ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم ﴿ولكني أراكم﴾ أي: أعلمكم علماً كالرؤية. وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو: بفتح الياء والباقون: بسكونها. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين وأمالها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي محضة. والباقون بالفتح. ﴿قوماً تجهلون﴾ أي: باستعجال العذاب. فإنّ الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا مقترحين.
﴿فلما رأوه﴾ أي: العذاب الذي توعدهم به ﴿عارضا﴾ أي: سحاباً أسود بارزاً في الأفق، ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم. ﴿مستقبل أوديتهم﴾ أي: طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك. ﴿قالوا﴾ على عادة جهلهم، مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأنّ جهلهم به استمّر حتى كاد أن يواقعهم. ﴿هذا عارض﴾ أي: سحاب معترض في عرض السماء. أي: ناحيتها. ﴿ممطرنا﴾ قال المفسرون: كان حبس عنهم المطر أياماً فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى ﴿بل هو﴾ أي: هذا العارض الذي ترونه ﴿ما استعجلتم به﴾ أي: طلبتم العجلة في إتيانه وقوله تعالى: ﴿ريح﴾ بدل من ﴿ما﴾ ﴿فيها عذاب أليم﴾ أي: شديد الإيلام وروي أنها كانت تحمل الفسطاط فترفعه في الجوّ، وتحمل الظعينة في الجوّ، فترفعها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، ثم تقذف بهم. ثم وصف تلك الريح. بقوله تعالى:
﴿تدمر﴾ أي: تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً. ﴿كل شيء﴾ أي: أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن آمن به، فسلامته أمر خارق للعادة. كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة. ﴿بأمر ربها﴾ أي: المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام من أعدائه.
فإن قيل: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب: بأنّ فائدة ذلك: الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه، وأكابر جنوده.
وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات.
قيل: إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار. وروي: أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، وحملتهم، فرمت بهم في البحر.
وروي: أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض.
وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح


الصفحة التالية
Icon