العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها، واشتروا النقض بالوفاء؛ والفساد بالصلاة؛ والعقاب بالثواب. ثم وبخ سبحانه وتعالى الكفار بقوله:
﴿كيف تكفرون با﴾ أي: أخبروني على أي حال تكفرون ﴿وكنتم أمواتاً﴾ أي: نطفاً في أصلاب آبائكم لا إحساس لكم ﴿فأحياكم﴾ في الأرحام ثم في الدنيا بخلق الأرواح ونفخها فيكم وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي، وقرأ الكسائي بالإمالة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. ﴿ثم يميتكم﴾ عند انقضاء آجالكم ﴿ثم يحييكم﴾ للبعث يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور.
قال التفتازاني: ولم لا يجوز أن يراد مطلق الإحياء بعد الإماتة على ما يعم الإحياء في القبور والنشور، ولا بعد فيه لشدّة ارتباط الإحياءين واتصالهما في الانقطاع عن أمر الدنيا ﴿ثم إليه ترجعون﴾ تردّون بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب فما أعجب كفركم مع عملكم بحالكم هذه.
فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم يميتهم لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون أجيب: بأن تمكنهم من العلم بما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر سيما في الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولاً قدر على أن يحييهم ثانياً فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.
فإن قيل: كيف تعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ أجيب: بأنها لما كانت وصلة للحياة الدائمة التي هي الحقيقية كما قال تعالى: ﴿وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ (العنكبوت، ٦٤) يعني: الحياة، كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدود عليهم نعمة هو المعنى المتنزع من القصة بأسرها كما أن الواقع حالاً هو العلم بها لا كل واحدة من الجمل فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصح حالاً ويصح أن يكون الخطاب مع الكفار والمؤمنين فإنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامّة والخاصة واستبعد صدور الكفر منهم واستبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم وأن يكون مع المؤمنين خاصة لتقرير المنة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتاً أي: جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ثم يميتكم الموت المعروف ثم يحييكم الحياة الحقيقية ثم إليه ترجعون فينبئكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والحياة حقيقة في القوّة الحاسة أو ما يقتضيها وبها سمي الحيوان حيواناً مجاز في القوّة النامية لأنها من طلائعها ومقدّماتها وفيما يخص الإنسان من الفضائل كالعلم والعقل والإيمان من حيث أنه كمالها وغايتها والموت بإزائها، يقال على ما يقابلها في كل مرتبة مثال ما يقابل الحقيقة قوله تعالى: ﴿قل الله يحييكم ثم يميتكم﴾ (الجاثية، ٢٦) ومثال ما يقابل المجاز الأوّل قوله تعالى: ﴿اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها﴾ (الحديد، ١٧) ومثال ما يقابل المجاز الثاني قوله تعالى: ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس﴾ (الأنعام، ١٢٢) وإذا وصف بها الباري تعالى أريد بها صحة اتصافه بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوّة فينا
الجنة فثواب اهتدائه له ﴿ومن ضلّ﴾ أي: كفر بها أو بشيء منها ﴿فإنما يضل عليها﴾ أي: على نفسه؛ لأنّ وبال ضلاله عليها؛ لأنّ من ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء فقد غر نفسه. ثم قال ﷺ ﴿وما أنا عليكم بوكيل﴾ أي: حفيظ، أي: موكول إليّ أمركم وإنما أنا بشير ونذير. قال ابن عباس: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿واتبع﴾ يا محمد ﴿ما يوحى إليك﴾ بالامتثال والتبليغ ﴿واصبر﴾ أي: على دعوتهم وتحمل أذيتهم ﴿حتى يحكم الله﴾ أي: بنصرك عليهم وإظهار دينك أو بالأمر بالقتال ﴿وهو خير الحاكمين﴾ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، فحكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون. وأنشد بعضهم في الصبر:
*سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري | وأصبر حتى يحكم الله في أمري |
*سأصبر حتى يعلم الصبر أنني | صبرت على شيء أمرُ من الجمر |
*ألا أبلغ معاوية بن حرب | أمير الظالمين ثنا كلامي |
*بأنا صابرون فمنظروكم | إلى يوم التغابن والخصام |
سورة هود
عليه السلام مكية
إلا وأقم الصلاة الآية وإلا فلعلك تارك الآية وأولئك يؤمنون به الآية مائة وثنتان أو ثلاث وعشرون آية، وكلماتها ألف وسبعمائة وخمس عشرة، وحروفها سبعة آلاف وستمائة وخمسة أحرف. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشيب؟ قال: «شيبتني هود وأخواتها. الحاقة والواقعة وعمّ يتساءلون هل أتاك حديث الغاشية».
﴿بسم الله﴾ أي: الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميع القدرة ﴿الرحمن﴾ لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة ﴿الرحيم﴾ لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله، وقوله تعالى:
﴿الر كتاب﴾ مبتدأ وخبر، أو كتاب خبر مبتدأ محذوف، وتقدم الكلام على أوائل السور أول سورة البقرة. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: ﴿أحكمت آياته﴾ صفة للكتاب وفسر الأحكام بوجوه:
الأوّل: أحكمت آياته، أي: نظمت نظماً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف، ولا يعتريه إخلال من جهة اللفظ، والمعنى: ولا يستطيع أحد
الإشارة به إليه اكتفى به وحسن، ولو ولي المذكر لم يحسن، ألا ترى أنك تقول جاءتني هند وزيد ولو أخرت هند لم يجز تأنيث الفعل، وقرأ ابن كثير بالنقل وصلاً وابتداءً وحمزة في الوقف لا غير، والباقون بغير نقل وقوله تعالى:
﴿هدى وبشرى﴾ يجوز أن يكونا منصوبين على المصدر بفعل مقدّر من لفظهما، أي: يهدي هدىً ويبشر بشرى، وأن يكونا في موضع الحال من آيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الإشارة، وأن يكونا خبراً بعد خبر، وأن يكونا خبري مبتدأ مضمر، أي: هو هدى من الضلالة وبشرى ﴿للمؤمنين﴾ أي: المصدّقين به بالجنة كقوله تعالى: ﴿فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً﴾ (النساء: ١٧٥)
ولهذا خص به المؤمنين، وقيل المراد بالهدى الدلالة، وإنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى، والبشرى إنما تكون للمؤمنين، أو لأنهم تمسكوا به كقوله تعالى: ﴿إنما أنت منذر من يخشاها﴾ (النازعات: ٤٥)
أو لأنه يزيد في هداهم كقوله تعالى: ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى﴾ (مريم: ٧٦)، ولما كان وصف الإيمان خفياً وصفهم بما يصدّقه من الأمور الظاهرة بقوله تعالى:
﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي: بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي: إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق ﴿وهم بالآخرة هم يوقنون﴾ أي: يوجدون الإيقان حق الإيجاد بالاستدلال ويجدّدونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة والإحجام عن المعصية، وأعيد هم لما فصل بينه وبين الخبر، ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها ذكره بقوله تعالى:
﴿إن الذين لا يؤمنون﴾ أي: لا يوجدون الإيمان ولا يجددونه ﴿بالآخرة زينا﴾ أي: بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها ﴿لهم أعمالهم﴾ أي: القبيحة بتركيب الشهوة حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه حقيقيّ عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقيّ، وإلى الشيطان مجاز سببيّ، وعند المعتزلة بالعكس، قال الزمخشريّ في تفسيره: إنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة وإسناده إلى الله عز وجل مجاز ﴿فهم﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنهم ﴿يعمهون﴾ أي: يتحيرون ويتردّدون في أودية الضلال ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد بعمل غير سديد.
﴿أولئك﴾ أي: البعداء البغضاء ﴿الذين لهم﴾ أي: خاصة ﴿سوء العذاب﴾ أي: أشدّه في الدنيا بالخوف والقتل ﴿وهم في الآخرة هم الأخسرون﴾ أي: أشدّ الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم، ولما وصف تعالى القرآن بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، ذكر حال المنزل عليه وهو النبيّ ﷺ مخاطباً له بقوله تعالى:
﴿وإنك﴾ أي: وأنت يا أشرف الخلق وأعلمهم وأعظمهم وأحكمهم ﴿لتلقى القرآن﴾ أي: لتؤتاه وتلقنه أي: يلقى عليك بشدّة ﴿من لدن﴾ أي: من عند ﴿حكيم﴾ أي: بالغ الحكمة فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان ﴿عليم﴾ أي: عظيم العلم واسعه تامّه شامله، والجمع بينهما مع أنّ العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل، والإشعار بأنّ علوم القرآن منها: ما هو كالعقائد والشرائع، ومنها: ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات، ثم شرع في بيان تلك العلوم بقوله تعالى:
﴿إذ قال موسى﴾ أي: اذكر قصته حين قال ﴿لأهله﴾ أي: زوجته
في الأمر فلما اتحد أمرهما وحد الضمير إشارة إلى ذلك ا. هـ فعنده أنه يصح رجوع الثلاثة إلى رسول الله ﷺ فإنه فسر ﴿ويسبحوه﴾ بقوله ينزهوه عن كل وخيمة باختلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء في الأربعة على الغيبة رجوعاً إلى قوله تعالى ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنات﴾ والباقون بالتاء على الخطاب ولما بين تعالى أنه مرسل ذكر أنّ من بايع رسوله فقد بايعه. فقال تعالى:
﴿إنّ الذين يبايعونك﴾ يا أشرف الرسل بالحديبية على أن لا يفروا ﴿إنما يبايعون الله﴾ أي: الملك الأعظم لأنّ عملك كله من قول أو فعل له تعالى وما ينطق عن الهوى وسميت مبايعة لأنهم باعوا أنفسهم فيها من الله تعالى بالجنة قال الله تعالى: ﴿إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة﴾ (التوبة: ١١١)
الآية «وروى يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع على أيّ شيء بايعتم رسول الله ﷺ يوم الحديبية قال: على الموت» وعن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتني يوم الشجرة والنبيّ ﷺ يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ» قال أبو عيسى: معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت. أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا: لا نفر. وقوله تعالى: ﴿يد الله﴾ أي: المتردّي بالكبرياء ﴿فوق أيديهم﴾ أي: في المبايعة يحتمل وجوهاً وذلك أنّ اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإمّا أن تكون بمعنيين فإن كانت بمعنى واحد ففيه وجهان: أحدهما قال الكلبي: نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: ﴿بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان﴾ (الحجرات: ١٧)
ثانيهما: قال ابن عباس ومجاهد: يد الله بالوفاء بما وعدهم من النصر والخير أقوى وأعلى من نصرتهم إياه. يقال: اليد لفلان أي الغلبة والقوة. وإن كانت بمعنيين ففي حق الله تعالى بمعنى الحفظ. وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة. قال السدّي: كانوا يأخذون بيد رسول الله ﷺ ويبايعونه ويد الله تعالى فوق أيديهم في المبايعة وذلك أنّ المتبايعين إذا مدّ أحدهما يده إلى الآخر في البيع وبينهما ثالث يضع يده على أيديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سبباً لحفظ البيعة فقال تعالى: ﴿يد الله فوق أيديهم﴾ يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين. قال البقاعي: فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد وعلى من تبعهم على ذلك من الذين شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وسائر الأئمة الأعلام ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين وناهيك به من ضلال مبين ا. هـ وقد مرّ أنّ التأويل في الآيات المتشابهات مذهب الخلف، ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار الصفات على ما جاءت وتفسيرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل. ﴿فمن نكث﴾ أي: نقض البيعة في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء والحبل البالي الذي ينقض ﴿فإنما ينكث﴾ أي: يرجع وبال نقضه ﴿على نفسه﴾ أي: فلا يضرّ إلا هي ﴿ومن أوفى﴾ أي: فعل الإتمام والإكثار والإطالة ﴿بما عاهد﴾ وقدم الظرف في قوله