فإن قيل: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ أجيب: بأنّ المراد بذكرهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله: ﴿وما أنسانيه إلا الشيطان﴾ (الكهف، ٦٣) والشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته وذكره بلفظ الدعاء على معنى التحدّث بنعمة الله فيه، قال الله تعالى: ﴿وأمّا بنعمة ربك فحدّث﴾ (الضحى، ١١) ﴿ربنا ولا تحمل علينا إصراً﴾ أي: لا تكفنا أمراً يثقل علينا حمله ﴿كما حملته على الذين من قبلنا﴾ أي: بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك قاله «الكشاف» » قال البيضاوي: وخمسين صلاة في اليوم والليلة ونسبها غيره من المفسرين إلى اليهود ولا تنافي بينهما إذ المراد من بني إسرائيل هم اليهود منهم فلا يرد على هذا ما قيل إنّ بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون صلاة قبل ولا خمس صلوات مع أنّ من حفظ حجة على من لم يحفظ ﴿ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة﴾ أي: قوّة ﴿لنا به﴾ من البلاء والعقوبة ومن التكاليف التي لا تفي به الطاقة البشرية وهو يدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفهول ثانٍ لا للمبالغة ﴿واعف عنا﴾ أي: امح ذنوبنا ﴿واغفر لنا﴾ أي: استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة بها ﴿وارحمنا﴾ وتعطف بنا وتفضل علينا فإننا لا ننال العمل بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك ﴿أنت مولانا﴾ أي: سيدنا ومتولي أمورنا ﴿فانصرنا على القوم الكافرين﴾ بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من حق المولى أن ينصرموا إليه على الأعداء أو المراد بالكافرين عامة الكفر.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿غفرانك ربنا﴾ قال الله تعالى: ﴿قد غفرت لكم﴾ وفي قوله: ﴿لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾ قال: لا أؤاخذكم ربنا ولا تحمل علينا إصراً قال: لا أحمل عليكم ﴿ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به﴾ قال: لا أحملكم ﴿واعف عنا﴾ إلخ.. قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين وكان معاذ إذا ختم سورة البقرة قال: آمين.
وروى مسلم وغيره أنه «صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عقب كل كلمة: قد فعلت» وعن عبد الله أنه قال: لما أسري برسول الله ﷺ انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال: ﴿إذ يغشى السدرة ما يغشى﴾ (النجم، ١٦) قال: فراش من ذهب قال: وأعطي رسول الله ﷺ ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات» وروي عنه ﷺ أنه قال: «أنزل الله تعالى آيتين أوّلهما آمن الرسول من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» والكتابة باليد تمثيل وتصوير لإثباتهما وتقديرهما بألفي سنة تصوير لقدمهما؛ لأنّ مثل هذا يقال لطول الزمان لا للتحديد.
وروي عنه ﷺ أنه قال: «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبيّ قبلي». وروي عنه أنه قال:
الرأس، وأثر هذه الأحوال يظهر في الوجه فلهذا خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيها فقال في القلب: ﴿نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة﴾ (الهمزة: ٦، ٧)
. وقال في الوجه: ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ (إبراهيم، ٥٠)
. وقوله تعالى:
﴿ليجزي الله﴾ متعلق ببرزوا ﴿كل نفس ما كسبت﴾، أي: من خير أو شرّ وهذا أولى من قول الواحدي: المراد منه أنفس الكفار؛ لأنّ ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان. ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم قال: ﴿إنّ الله سريع الحساب﴾، أي: لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى، ولا شأن عن شأن قوله تعالى:
﴿هذا﴾ إشارة إلى القرآن الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، نزل منزلة الحاضر وقيل: إلى السورة ﴿بلاغ﴾، أي: كان غاية الكفاية في الإيصال ﴿للناس﴾ والموعظة لهم، وقوله تعالى: ﴿ولينذروا﴾، أي: وليخوّفوا ﴿به﴾ عطف على محذوف ذلك المحذوف متعلق ببلاغ تقديره، أي: لينصحوا ولينذروا، وقيل: الواو مزيدة، ولينذروا متعلق ببلاغ ﴿وليعلموا﴾، أي: بما فيه من الحجج على وحدانية الله تعالى. ﴿أَنما هو﴾، أي: الله ﴿إله واحد﴾ فيستدلوا بذلك على أنّ الله واحد لا شريك له ﴿وليذكر﴾ بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي: يتعظّ ﴿أولو الألباب﴾، أي: أصحاب العقول الصافية من الأكدار، والأفهام الصحيحة، فإنه موعظة لمن اتعظ. تنبيه: ذكر سبحانه وتعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد مستفادة من قوله تعالى: ﴿ولينذروا به﴾ وتالييه والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوّة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوّة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بها بمحمد وآله، وفعل ذلك بوالدينا وأحبابنا.
وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» حديث موضوع. قال العلامة ابن جماعة في «شرح منظومة ابن فرج» التي أولها غرامي صحيح فرع من غرائب الجويني يكفر واضع الحديث، أي: والمشهور عدم تكفيره.
سورة الحجر
مكية
وهي تسع وتسعون آية وستمائة وأربع وخمسون كلمة، وعدد حروفها ألفان وسبعمائة وستون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الملك الواحد القهار ﴿الرحمن﴾ الذي أسبغ نعمه على سائر بريته، فعجزت عن وصفه الأفكار ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ولايته بنجاتهم من النار، وقوله تعالى:
﴿الر﴾ ذكر فيه الفتح والإمالة أوّل يونس. وقيل: معناه: أنا الله أرى، وقدّمنا الكلام على أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقوله تعالى: ﴿تلك﴾ إشارة إلى آيات هذه السورة، أي: هذه الآيات ﴿آيات الكتاب﴾، أي: القرآن، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى: ﴿وقرآن مبين﴾، أي: مظهر للحق من الباطل عطف بزيادة صفة. وقيل: المراد بالكتاب هو السورة، وكذا القرآن، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وبالقرآن هذا الكتاب. ثم بيّن سبحانه وتعالى حال الكفار يوم القيامة بقوله تعالى:
﴿ربما يودّ﴾،
يزل يرمقه بعينه حتى كان منه قريباً فتوارى عنه؛ ثم صاح به أنت لقمان قال نعم، قال أنت الحكيم، قال كذلك يقال: قال ما قال لك ابنك. قال: يا عبد الله من أنت؟ أسمع كلامك ولا أرى وجهك، قال: أنا جبريل أمرني ربي بخسف هذه القرية ومن فيها فأخبرت أنكما تريدانها فدعوت ربي أن يحبسكما عني بما شاء فحبسكما بما ابتلى به ابنك ولولا ذلك لخسفت بكما مع من خسفت، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم ابنه فاستوى قائماً ومسح بيده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً وعلى الذي كان فيه الماء فامتلأ ماء ثم حملهما وحماريهما فرحل
بهما كما يرحل الطير فإذا هما في الدار التي خرجا بعد أيام وليال منها.
وعن عبد الله بن دينار أن لقمان قدم من سفر فلقي غلامه في الطريق فقال: ما فعل أبي؟ فقال: مات. قال: الحمد لله ملكت أمري، قال: ما فعلت أمي؟ قال: ماتت، قال: ذهب همي. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت، قال: جدد فراشي. قال: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت. قال: سترت عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري.
وعن أبي قلابة قال: قيل للقمان أي الناس أصبر؟ قال: صبر لا معه أذى، قيل: فأيّ الناس أعلم؟ قال: من ازداد من علم الناس إلى علمه، قيل: فأي الناس خير؟ قال: الغني، قيل الغني من المال؟ قال: لا، ولكن الغني من التمس عنده خير وجد وإلا أغنى نفسه عن الناس.
وعن سفيان: قيل للقمان: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، وعن عبد الله بن زيد قال قال لقمان ألا إن يد الله على أفواه الحكماء لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله تعالى له، ولما استدل سبحانه بقوله تعالى: ﴿خلق السموات بغير عمد﴾ على الوحدانية وبين بحكمة لقمان أنّ معرفة ذلك غير مختصة بالنبوّة استدل ثانياً على الوحدانية بالنعم بقوله تعالى:
﴿ألم تروا﴾ أي: تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة ﴿أن الله﴾ أي: الحائز لكل كمال ﴿سخر لكم﴾ أي: لأجلكم ﴿ما في السموات﴾ من الإنارة والإظلام والشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر والبرد وغير ذلك من الإنعامات مما لا يحصى، كما قال ﴿والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره﴾ ﴿و﴾ سخر لكم ﴿ما في الأرض﴾ من البحار والثمار والآبار والأنهار والدواب والمعادن وغير ذلك مما لا يحصى ﴿وأسبغ﴾ أي: أوسع وأتم ﴿عليكم﴾ وقوله تعالى ﴿نعمه﴾ قرأه نافع وأبو عمرو وحفص بفتح العين وبعد الميم هاء مضمومة، والباقون بسكون العين وبعد الميم تاء مفتوحة منونة، ومعناها الجمع أيضاً كقوله تعالى ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ (إبراهيم: ٣٤)
واختلف في قوله عز وجل ﴿ظاهرة وباطنة﴾ على أقوال: فقال عكرمة عن ابن عباس: النعمة الظاهرة: القرآن والإسلام، والباطنة: ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة، وقال الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة، وقال مقاتل: الظاهرة تسوية الخلق والرزق والإسلام، والباطنة ما ستر من الذنوب، وقال الربيع: الظاهرة الجوارح والباطنة القلب، وقال عطاء الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة الشفاعة، وقال مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء والباطنة الإمداد بالملائكة، وقال سهل بن عبد الله: الظاهرة اتباع الرسول والباطنة محبته، وقيل الظاهرة تمام الرزق والباطنة تمام الخلق، وقيل الظاهرة الإمداد بالملائكة والباطنة إلقاء الرعب في قلوب
في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق لهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا.
وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ﴿وما نحن﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿بمسبوقين﴾ أي: بالموت أي: لا عاجزين ولا مغلوبين ﴿على﴾ أي: عن ﴿أن نبدّل﴾ أي تبديلاً عظيماً ﴿أمثالكم﴾ أي: صوركم وأشخاصكم ﴿وننشئكم﴾ أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم ﴿في ما لا تعلمون﴾ فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها، وبعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قل كونوا حجارة أو حديداً﴾ (الإسراء: ٥٠)
إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي: نأت بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي: بتغيير أوصافكم وصوركم إلى صور أخرى بالمسخ ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة وقال الطبري: معنى الآية نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم أي: لا يتقدّم متأخر ولا يتأخر متقدم، وننشئكم فيما لا تعلمون من الصور وقال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل: المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فنجمل المؤمن ببياض وجهه ونقبح الكافر بسواد وجهه «فائدة» في ما مقطوعة في الرسم.H
﴿ولقد علمتم النشأة الأولى﴾ أي: الترابية لأبيكم آدم عليه السلام، واللحمية لأمكم حواء رضى الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى: ﴿فلولا﴾ أي: فهلا ولم لا ﴿تذكرون﴾ أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس، وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص، وشدّدها الباقون.
ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى: ﴿أفرأيتم﴾ أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا كم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم ﴿ما تحرثون﴾ أي: تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر ﴿أأنتم تزرعونه﴾ أي: تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل والحب ﴿أم نحن﴾ خاصة ﴿الزارعون﴾ أي: المنبتون له والحافظون؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت». قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى: ﴿أفرأيتم﴾ الآية.
ولما كان الجواب قطعاً أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحاً لأنه ما زرعه غيره ﴿لو نشاء﴾ أي: لو عاملناكم بصفة العظمة