ما دل على ما في الضمير وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذلك قال: ﴿واذكر ربك كثيراً وسبح﴾ أي: صل ﴿بالعشيّ﴾ وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ﴿والإبكار﴾ وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
فإن قيل: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ أجيب: بأنه إنما فعل به ذلك لتخلص المدّة المذكورة لذكر الله تعالى لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها التي طلب الآية من أجله كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه وقال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ قالت الملائكة﴾ أي: جبريل قال لها شفاهاً: ﴿يا مريم إنّ الله اصطفاك﴾ أي: اختارك بأن تقبلك من أمّك ولم يقبل قبلك أنثى وفرغك للعبادة وأغناك برزق الجنة عن الكسب وتكليمه لها شفاها كرامة لها. وقيل: كان معجزة لزكريا، وقيل: كان إرهاصاً أي: تأسيساً لنبوّة عيسى ﷺ بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا ﷺ قبل البعثة بطريق الشام وإنما حمل على هذا التأويل؛ لأنها ليست بنبية على الأصح بل حكى البيضاويّ الإجماع على أنه تعالى لم ينبىء امرأة لقوله تعالى: ﴿وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً﴾ (الأنبياء، ٧) لكن نوزع في دعوى الإجماع؛ لأنّ الخلاف ثابت في نبوّة نسوة خصوصاً مريم إذ القول بنبوّتها مشهور ﴿وطهرك﴾ أي: مسيس الرجال ومما يستقذر من النساء ﴿واصطفاك﴾ ثانياً ﴿على نساء العالمين﴾ بهدايتك وإرسال الملائكة إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب ولم يكن لأحد من النساء.
فائدة: أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية إذ قيل بنوّتها ثم فاطمة بنت رسول الله ﷺ ثم خديجة أمّها ثم عائشة ثم آسية امرأة فرعون.
فإن قيل: روى الطبرانيّ: «خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد ثم فاطمة بنت محمد ﷺ ثم آسية امرأة فرعون» أجيب: بأنّ خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة.
﴿يا مريم اقنتي لربك﴾ أي: أطيعيه ﴿واسجدي واركعي مع الراكعين﴾ أي: وصلي مع المصلين في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم.
فإن قيل: لم قدم السجود على الركوع؟ أجيب: باحتمال أنه كان كذلك في تلك الشريعة وقيل: بل كان السجود قبل الركوع في الشرائع كلها أو للتنبيه على أنّ الواو لا تقتضي الترتيب.
﴿ذلك﴾ أي: ما قصصناه عليك يا محمد من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى ﴿من أنباء الغيب نوحيه إليك﴾ أي: من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي ﴿وما كنت لديهم﴾ أي: عندهم ﴿إذ يلقون أقلامهم﴾ في الماء أي: سهامهم التي طرحوها فيه وعليها علامة على القرعة وقيل: هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركاً بها ليعلموا ﴿أيهم يكفل مريم﴾ أي: يحضنها ويربيها، فأيّ متعلق بمحذوف كما علم من التقدير ﴿وما كنت لديهم إذ يختصمون﴾ في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته
وهو ﴿فسوف يعلمون﴾ أي: عاقبة أمرهم في الدارين. ولما ذكر سبحانه وتعالى أنّ قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون قال له تعالى:
﴿ولقد نعلم﴾ أي: نحقق وقوع علمنا ﴿أنك﴾ أي: على ما لم من الحلم وسعة البطان ﴿يضيق صدرك﴾ أي: يوجد ضيقه ويتجدد ﴿بما يقولون﴾ أي: من الاستهزاء والتكذيب بك وبالقرآن لأنّ الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال تعالى:
﴿فسبح﴾ ملتبساً ﴿بحمد ربك﴾ أي: نزهه عن صفات النقص. وقال الضحاك: قل سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس: فصلّ بأمر ربك. ﴿وكن من الساجدين﴾ أي: من المصلين. روي أنه ﷺ «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة». وقدّمت معناه في سورة البقرة. تنبيه: اختلف الناس كيف صار الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن فقال العارفون المحققون: إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات يتنوّر باطنه ويشرق عليه وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها. وقال بعض الحكماء: إذا نزل بالإنسان بعض المكاره ففزع إلى الطاعات فكأنه يقول: يا رب يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات فأنا عبدك بين يديك فافعل بي ما تشاء ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ قال ابن عباس: يريد الموت، وسمى الموت يقيناً لأنه أمر متيقن وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم: ﴿وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً﴾ (مريم، ٣١)
. وروى البغوي بسنده عن ابن جبير قال: قال رسول الله ﷺ «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحى إليّ أن ﴿سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ ». فإن قيل: أي: فائدة لهذا التوقيت مع أنّ كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ أجيب: بأنّ المراد منه واعبد ربك في جميع زمان حياتك فلا تخل لحظة من لحظات الدنيا بهذه العبادات. وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله ﷺ إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله ﷺ «انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها أو قال شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون». وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم. حديث موضوع.
سورة النحل
مكية
إلا قوله تعالى: ﴿وإن عاقبتم﴾ إلى آخر السورة وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية وقال آخرون: من أوّلها إلى قوله: ﴿كن فيكون﴾ مدني وما سواه مكي. وعن قتادة بالعكس، وتسمى سورة النعم والمقصود من هذه السورة الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحل، لما ذكر من شأنها في دقة الفهم في ترتيب
أقوال: أحدها: أنها عائدة على موسى عليه السلام والمصدر مضاف لمفعوله أي: من لقائك موسى ليلة الإسراء.
وامتحن المبرد الزجاج في هذه المسألة فأجاب بما ذكر قال ابن عباس وغيره: المعنى فلا تكن في شك من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، روى ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوعاً إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النار والدجال في آيات آراهن الله إياه» وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ «أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو يصلي في قبره»، فإن قيل: قد صح في حديث المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة، فكيف الجمع بين هذين الحديثين.
أجيب: بأنه يحتمل أن تكون رؤيته في قبره عند الكثيب الأحمر قبل صعوده إلى السماء وذلك في طريقه إلى بيت المقدس، فلما صعد إلى السماء السادسة وجده هناك قد سبقه لما يريده الله تعالى وهو على كل شيء قدير.
فإن قيل: كيف تصح منه الصلاة في قبره وهو ميت وقد سقط عنه التكليف وهو في الدار الآخرة وهي ليست دار عمل، وكذلك رأى النبي ﷺ جماعة من الأنبياء وهم يحجون؟ أجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما صح في الحديث، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا لكنهم بمنزلة الأحياء في هذه الدار التي هي دار العمل إلى أن تفنى ويفضوا إلى دار الجزاء التي هي الجنة.
الجواب الثاني: أنه ﷺ رأى حالهم التي كانوا عليها في حياتهم ومثلوا له كيف كانوا وكيف كان حجهم وصلاتهم. الجواب الثالث: أن التكليف وإن ارتفع عنهم في الآخرة لكن الذكر والشكر والدعاء لا يرتفع قال الله تعالى ﴿دعواهم فيها سبحانك اللهم﴾ (يونس: ١٠)
وقال ﷺ «يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس» فالعبد يعبد ربه تعالى في الجنة أكثر ما كان يعبده في دار الدنيا، وكيف لا يكون ذلك وقد صار مثل حال الملائكة الذين قال الله تعالى في حقهم ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ (الأنبياء: ٢٠)
غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي مقتضى الطبع. ثانيها: أن الضمير يعود إلى الكتاب وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي: من لقاء الكتاب لموسى أو المعول أي: من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاء تصح نسبته إلى كل منهما؛ لأن من لقيك فقد لقيته. قال السدي: المعنى فلا تكن في مرية من لقائه أي: تلقى موسى كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. ثالثها: أنه يعود على الكتاب على حذف مضاف أي: من لقاء مثل كتاب موسى.
رابعها: أنه عائد على ملك الموت عليه السلام لتقدم ذكره. خامسها: عوده على الرجوع المفهوم من قوله ﴿إلى ربكم ترجعون﴾ أي: لا تكن في مرية من لقاء الرجوع. سادسها: أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من الابتلاء والامتحان قاله الحسن أي: لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه، واختار موسى عليه السلام الحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذه من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لم يؤمن به آذاه كفرعون، ومن آمن به من بني
أي: الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين ﴿والميزان﴾ أي: العدل، وقيل: الآلة روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به ﴿ليقوم الناس بالقسط﴾ أي: ليتعاملوا بينهم بالعدل ﴿وأنزلنا﴾ أي: خلقنا خلقا عظيماً بما لنا من القوة ﴿الحديد﴾ أي: المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالاً؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به يقال: وقعت الحديدة أقعها أي: حددتها وفي الصحاح: الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل، وروي ومعه المبرد والمسحاة، وعن عمر أن النبي ﷺ قال: «إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح». وروى عكرمة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى عليه السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى» ؛ وعن الحسن ﴿وأنزلنا الحديد﴾ خلقناه كقوله تعالى: ﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ (الزمر: ٦)
وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه ﴿فيه بأس﴾ أي: قوة وشدّة ﴿شديد﴾ أي: قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب ﴿ومنافع للناس﴾ بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها، وقال مجاهد: يعني جنة، وقيل: انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم؛ وروي أنه ﷺ قال: «أن في يوم الثلاثاء ساعة لا يراقد فيها الدم».
وقوله تعالى: ﴿وليعلم الله﴾ أي: الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، عطف على قوله تعالى: ﴿ليقوم الناس﴾ أي: لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله ﴿من ينصره﴾ أي: ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى: ﴿ورسله﴾ عطف على مفعول ينصره أي: وينصر رسله وقوله تعالى: ﴿بالغيب﴾ حال من هاء ينصره، أي: غائباً عنهم في الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه ﴿إن الله﴾ أي: الذي له العظمة كلها ﴿قوي﴾ أي: فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه ﴿عزيز﴾ فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب ولما أجمل الرسل في قوله تعالى:
﴿لقد أرسلنا رسلنا﴾ (الحديد: ٥) فصل هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب فقال تعالى: ﴿ولقد أرسلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿نوحاً﴾ وهو الأب الثاني وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال ﴿وإبراهيم﴾ وهو أبو العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله وجعلنا الأغلب على رسالته تجلى الإكرام ﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿في ذريتهما النبوّة﴾


الصفحة التالية
Icon