رسلهم أي: آخر أمرهم من الهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسوله.
﴿وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا﴾ به أي: وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت برسالتي ﴿فاصبروا﴾ أي: فتربصوا ﴿حتى يحكم الله بيننا﴾ أي: بين الفرقتين فيعز المؤمنين أي: المصدّقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وفي هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ﴿وهو خير الحاكمين﴾ أي: لا حيف في حكمه ولا معقب له لأنه تعالى منزه عن الجور والميل في حكمه وإنما قال: ﴿خير الحاكمين﴾ لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكماً على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة.
أي: الجماعة ﴿الذين استكبروا﴾ أي: تكبروا ﴿من قومه﴾ عن الإيمان بالله ورسوله وتعظموا عن اتباع شعيب عليه الصلاة والسلام ﴿لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن﴾ أي: ترجعن ﴿في ملتنا﴾ أي: لا بدّ من أحد الأمرين إمّا إخراجك ومن اتبعك على دينك من بلدنا أو عودكم في الكفر.
فإن قيل: شعيب لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه؟ أجيب: بأنّ أتباع شعيب كانوا على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيباً وأتباعه جميعاً فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً فاستعمل العود في حقهم على سبيل المجاز وجرى بعضهم على أن العود يستعمل بمعنى صار كما يستعمل بمعنى رجع فلا يستلزم الرجوع إلى حالة سابقة بل هو انتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كما قال القائل:

*فإن تكن الأيام تحسن مرّة إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب*
راد فقد صارت لهنّ دنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهنّ قبل الإحسان ﴿قال﴾ لهم شعيب على سبيل الاستفهام الإنكاري ﴿أولو كنا كارهين﴾ أي: كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، وقيل: لا نعود فيها وإن أكرهتمونا وجبرتمونا على الدخول فيها لا نقبل ولا ندخل.
﴿قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها﴾ والجواب عن هذا مثل ما أجيب به عن الأوّل وهو أن نقول: إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة إلا أن شعيباً نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب ﴿وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا﴾ أي: إلا أن يشاء خذلاننا وارتدادنا فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا وفيه دليل على أنّ الكفر بمشيئة الله تعالى، وقيل: أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون ﴿وسع ربنا كل شيء علماً﴾ أي: وسع علمه كل شيء فلا يخفى عليه شيء مما كان وما يكون منا ومنكم ﴿على الله توكلنا﴾ في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار ولما أيس شعيب من إيمان قومه دعا بهذا الدعاء فقال: ﴿ربنا افتح﴾ أي: اقض وافصل واحكم ﴿بيننا وبين قومنا بالحق﴾ أي: بالعدل الذي لا جور فيه ولا ظلم ولا حيف ﴿وأنت خير الفاتحين﴾ أي: الحاكمين.
﴿وقال الملأ الذين كفروا من قومه﴾ أي: قال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم ﴿لئن اتبعتم شعيباً﴾ أي: على دينه وتركتم دينكم وما أنتم عليه ﴿إنكم إذاً لخاسرون﴾ أي: مغبونون
بتكذب الرسل فما يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وقرأ نافع وأبوعمرو وحفص بالفوقية على التأنيث، والباقون بالتحتية على التذكير
﴿ولو أنّا أهلكناهم﴾ معاملة لهم في عصيانهم ﴿بعذاب من قبله﴾ أي: هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله تعالى: ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ (طه، ١١٤)
وفي مثنى السورة في: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ (طه، ٢)
أو من قبل محمد ﷺ ﴿لقالوا﴾ أي: يوم القيامة ﴿ربنا﴾ يا من هو متصف بالإحسان إلينا ﴿لولا﴾ أي: هلا ولم لا ﴿أرسلت إلينا رسولاً﴾ يأمرنا بطاعتك ﴿فنتبع﴾ أي: فيتسبب عنه أن نتبع آياتك التي تنجينا بها ﴿من قبل أن نذل﴾ بالعذاب هذا الذل ﴿ونخزى﴾ بالمعاصي التي عملناها على جهل، فلأجل ذاك أرسلناك إليهم، وأقمنا بك الحجة عليهم، ولما علم بهذا أنّ إيمانهم كالممتنع، وجدالهم لا ينقطع بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا كان كأنه قيل: فما الذي أفعل معهم؟ فقيل:
﴿قل﴾ لهم ﴿كل﴾ أي: كل مني ومنكم ﴿متربص﴾ أي: منتظر ما يؤول إليه أمري وأمركم ﴿فتربصوا﴾ فأنتم كالبهائم ليس لكم تأمل ﴿فستعلمون﴾ أي: عما قريب بوعد لا خلف فيه، وهو يوم القيامة ﴿من أصحاب الصراط﴾ أي: الطريق ﴿السويّ﴾ أي: المستقيم ﴿ومن اهتدى﴾ أي: من الضلال، فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره أنحن أم أنتم؟ قال ابن عادل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة ينزل عليها هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا»، وعن الحسن أن النبي ﷺ قال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه» انتهى، ولم يذكر لذلك سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار» فحديث موضوع.
سورة الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام مكية
قال الرازي بإجماع: وهي مائة وإحدى أو ثنتا عشرة آية وألف ومائة وستون كلمة وأربعة آلاف وثمان وتسعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الحكم العدل الذي تمت قدرته وعمّ أمره ﴿الرحمن﴾ الذي ساوى بين خلقه في رحمة إيجاده ﴿الرحيم﴾ الذي نجى من شاء من عباده في معاده قال أبو جعفر بن الزبير في برهانه لما تقدم قوله تعالى: ﴿ولا تمدن عينيك﴾ (الحجر، ٨٨)
إلى قوله: ﴿فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى﴾ (طه، ١٣٥)
قال تعالى:
﴿اقترب﴾ أي: قرب ﴿للناس حسابهم﴾ أي: في يوم القيامة أي: فلا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة، وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب؛ لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلاً لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب فإن قيل: كيف وصف ذلك اليوم بالاقتراب وقد عدت دون هذا القول أكثر من تسعمائة عام أجيب بأنه مقترب عند الله، والدليل عليه قوله تعالى: ﴿ويستعجلونك بالعذاب وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون﴾ (الحج، ٤٧)
ولأن كل آت، وإن طالت أوقات استقباله وترقبه قريب وإنما البعيد هو الذي وجد وانقرض
أيها المخاطبون ﴿الله﴾ أي: الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه فيها أحد ﴿ربكم﴾ أي: المربي لكم المحسن إليكم ﴿خالق كل شيء﴾ أي: بما ثبت من تمام قدرته لأنه ﴿لا إله إلا هو﴾ أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية فهي أخبار مترادفة وإذا كان خالق كل شيء ﴿فأنى﴾ أي: فكيف ومن أي وجه ﴿تؤفكون﴾ أي: تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
﴿كذلك﴾ أي: مثل هذا الصرف البعيد عن مناهج العقلاء ﴿يؤفك﴾ أي: يصرف ﴿الذين كانوا﴾ أي: مطبوعين على أنهم ﴿بآيات الله﴾ أي: ذي الجلال والكمال ﴿يجحدون﴾ أي: ينكرون عناداً ومكابرة.
ولما كان دلائل وجوده تعالى إما أن تكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام وذكر منها أحوال الليل والنهار كما تقدم، ذكر أيضاً منها ههنا الأرض والسماء فقال تعالى:
﴿الله﴾ أي: الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿الذي جعل﴾ أي: وحده ﴿لكم الأرض﴾ أي: مع كونها فراشاً ممهداً ﴿قراراً﴾ مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرته ﴿والسماء﴾ أي: على علوها وسعتها مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار والأظلام ﴿بناء﴾ مظلة كالقبة من غير عماد وحامل. ثم ذكر دلائل النفس وهي دلالة أحوال بدن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم بقوله تعالى: ﴿وصوركم﴾ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون إلا بقدرة قادر تام القدرة مختار ﴿فأحسن صوركم﴾ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها لم يخلق الله تعالى حيواناً أحسن صورة من الإنسان كما قال تعالى: ﴿في أحسن تقويم﴾ (التين: ٤)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الإنسان قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه.
ولما ذكر تعالى المساكن والساكن ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال سبحانه ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ أي: الشهية الملائمة للطباع وقيل: هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب، وعن الحسن: أنه قال لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام: إن الأرض لا تسعهم قال الله تعالى: فإني جاعل موتاً، قالوا: إذاً لا يهنأ لهم العيش قال تعالى: فإني جاعل أملاً.
ولما دل هذا على التفرد قال تعالى على وجه الإنتاج ﴿ذلكم﴾ أي: الرفيع الدرجات ﴿الله﴾ أي: المالك لجميع الملك ﴿ربكم﴾ أي: المحسن إليكم لا غيره ﴿فتبارك﴾ أي: ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض ﴿الله﴾ المختص بالكمال ﴿رب العالمين﴾ كلهم فهو المحسن إليهم بالتربية وغيرها. ثم نبه تعالى بقوله سبحانه:
﴿هو الحي﴾ بما يفيد الحصر بأنه لا حي على الدوام إلا هو ثم نبه تعالى على وحدانيته بقوله سبحانه: ﴿لا إله إلا هو﴾ ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال تعالى: ﴿فادعوه﴾ أي: اعبدوه ﴿مخلصين له الدين﴾ أي: من كل شرك جلي أو خفي.
ولما كان تعالى موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له: ﴿الحمد﴾ أي: الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي: المسمى بهذا الاسم الجامع لمجامع معاني الأسماء الحسنى ﴿رب العالمين﴾ أي: الذي رباهم هذه التربية، وقال الفراء: هو خبر وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحمدوه، وعن ابن عباس
قال الحسن: فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليه السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد ﷺ قال ابن عباس: «من طاعة جبريل عليه السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ ﷺ قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها». ﴿أمين﴾ أي: بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل: الرسول هو محمد ﷺ فالمعنى حينئذ: ذي قوة على تبليغ الوحي ﴿مطاع﴾ أي: يطيعه من أطاع الله تعالى.
﴿وما صاحبكم﴾ أي: الذي طالت صحبته لكم، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى إنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وهو محمد ﷺ وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه.
وأغرق في النفي فقال تعالى: ﴿بمجنون﴾ أي: كما زعمتم يتهم في قوله: ﴿بل جاء بالحق وصدّق المرسلين﴾ (الصافات: ٣٧)
فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل. ﴿ {
تنبيه: استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه السلام على محمد ﷺ حيث عدّ فضائل جبريل عليه السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ ﷺ وهو كما قال البيضاوي: ضعيف؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر، وقولهم افترى على الله كذباً، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما.
{ولقد رآه﴾
أي: رأى رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح. ﴿بالأفق المبين﴾ أي: البين، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة: بالأفق الأعلى من ناحية المشرق.
وعن ابن عباس «أنّ النبيّ ﷺ قال لجبريل عليه السلام: «إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء» قال: لن تقوى على ذلك، قال: «بلى». قال: فأين تشاء أن أتخيل لك، قال: «بالأبطح». قال: لا يسعني، قال: «فبمنى». قال: لا تسعني. قال: «فبعرفات». قال ذلك بالحري أن يسعني، فواعده فخرج النبيّ ﷺ للوقت، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيّ ﷺ خرّ مغشياً عليه، قال: فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة، وإنّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع ـ يعني: العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إنّ محمداً ﷺ رأى ربه عز وجل بالأفق المبين، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم.
﴿وما﴾ أي: وسمعه ورآه والحال أنه ما ﴿هو﴾ أي: محمد ﷺ ﴿على الغيب﴾ أي: ما غاب من الوحي وخبر السماء، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ ﴿بنين﴾ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة، وهي التهمة، أي: فليس بمتهم، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل، أي: فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان ﷺ يقرأ


الصفحة التالية
Icon