لو لم ترسل إليهم الرسل، عطف على ﴿أن يقولوا﴾، وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب ﴿إنما أشرك آباؤنا من قبل﴾ أي: قبل أن نوجد ﴿وكنا ذرّية من بعدهم﴾ أي: فلم نعرف لنا مربياً غيرهم، فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر، ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: ﴿أفتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ أي: من آبائنا، قال أبو حيان: والمعنى أنّ الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمن العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحداهما: كنا غافلين، والأخرى: كنا تبعاً لأسلافنا، فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا، انتهى.
فإن قيل: كيف يكون ذكر الميثاق عليهم حجة فإنهم لما أخرجوا من ظهر آدم ركب فيهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، فلما أعيدوا إلى صلبه بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق؟ أجيب: بأن التذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس، وبذلك قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمتهم الحجة، ولا تسقط الحجة بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.
والمقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعدما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال كما قال تعالى:
﴿وكذلك﴾ أي: ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع ﴿نفصل الآيات﴾ أي: كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجنابنا جهلاً لعدم الدليل ﴿ولعلهم يرجعون﴾ أي: عن التقليد واتباع الباطل.
﴿واتل﴾ أي: يا محمد ﴿عليهم﴾ أي: اليهود ﴿نبأ﴾ أي: خبر ﴿الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها﴾ أي: خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين سئل أن يدعو على موسى، وأهدي إليه شيء، فدعا فانقلبت عليه، واندلع لسانه على صدره ﴿فاتبعه الشيطان﴾ أي: لحقه وأدركه وصيره لنفسه تابعاً في معصية الله تعالى، فخالف أمر ربه وأطاع الشيطان وهواه ﴿فكان من الغاوين﴾ أي: من الضالين الهالكين.
وقصته على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنّ موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إنّ موسى رجل حديد ومعه جند كثير، وإنه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله تعالى أن يردّهم عنا، فقال: ويلكم نبيّ الله ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما لا تعلمون؟ وأني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي، فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أوامر ربي، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر في الدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد وامرت ربي، وإني نهيت أن أدعو عليهم، فأهدوا إليه هدية، فقبلها وراجعوه فقال: حتى أوامر ربي، فوامر فلم يؤمر بشيء، فقال: قد وامرت ربي فلم يأمرني بشيء، فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرّة الأولى، فلم يزالوا يتضرّعون إليه حتى فتنوه، فافتتن، فركب أتاناً له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر
أي: بالأمر الذي يحق لكل منا من نصر وخذلان، وقرأ حفص بفتح القاف وألف بعدها، وفتح اللام بصيغة الماضي على حكاية رسول الله ﷺ والباقون بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر فإن قيل: كيف قال رسول الله ﷺ احكم بالحق والله تعالى لا يحكم إلا بالحق؟ أجيب: بأن الحق ههنا بمعنى العذاب، فكأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر، نظيره قوله: ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (الأعراف، ٨٩)، وقال أهل المعاني: معناه رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، والله تعالى يحكم بالحق طلب أم لم يطلب، ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب في حكمه الحق ﴿وربنا﴾ أي: المحسن إلينا أجمعين ﴿الرحمن﴾ أي: العام الرحمة لنا ولكم بإدرارها علينا، ولولا عموم رحمته لأهلكنا أجمعين، وإن كنا نحن أطعناه لأنّا لا نقدره حقّ قدره، ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ (فاطر، ٤٥)
﴿المستعان﴾ أي: المطلوب منه العون ﴿على ما تصفون﴾ من كذبكم على الله تعالى في قولكم: اتخذ الله ولداً، وعليّ في قولكم ساحر، وعلى القرآن في قولكم شعر قال الرازي: روي أنه ﷺ كان يقول ذلك في حروبه، ولم يذكر له سنداً، وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ اقترب حاسبه الله حساباً يسيراً، وصافحه وسلم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن»، فحديث موضوع والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة الحج
مكية
إلا ﴿ومن الناس من يعبد الله على حرف﴾ الآيتين وإلا ﴿هذان خصمان﴾ الست آيات فمدنيات، وهي ثمان، وقيل: خمس أو ست أو سبع وسبعون آية.
﴿بسم الله﴾ أي: الذي اقتضت عظمته خضوع كل شيء ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ برحمته كل موجود ﴿الرحيم﴾ الذي خص بفضله من شاء من عباده. ولما ختمت السورة التي قبل هذه بالترهيب من الفزع الأكبر وطي السماء وإتيان ما يوعدون، وكان أعظم ذلك يوم الدين افتتحت هذه السورة بالأمر بالتقوى المنجية من هول ذلك اليوم بقوله تعالى:
﴿يا أيها الناس﴾ أي: الذين تقدّم أوّل تلك أنه اقترب لهم حسابهم إن أريد أنّ ذلك عام وإلا فهم وغيرهم ﴿اتقوا﴾ أي: احذروا عقاب ﴿ربكم﴾ أي: المحسن إليكم بأنواع الإحسان بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية الطاعات، ولما أمرهم بالتقوى علل ذلك مرهباً لهم بقوله تعالى: ﴿إنّ زلزلة الساعة﴾ أي: حركتها الشديدة للأشياء على الإسناد المجازي، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله، ويصح أن يكون إلى المفعول فيه على طريق الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: ﴿بل مكر الليل والنهار﴾ (سبأ، ٣٣)، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ (الزلزلة، ١)
واختلف في وقتها، فعن الحسن أنها تكون يوم القيامة، وعن علقمة والشعبي عند طلوع الشمس من مغربها الذي هو أقرب للساعة ﴿شيء عظيم﴾ أي: أمر كبير وخطر جليل وحادث هائل لا تحتمل العقول وصفه وهذا للزلزلة نفسها، فكيف بجميع ما يحدث في ذلك اليوم الذي لا بدّ لكم من الحشر فيه
واجتناب معاصيه ﴿إلا إن الذين يمارون﴾ أي: يخاصمون ويجادلون ﴿في الساعة﴾ أي: القيامة وما تحتوي عليه ﴿لفي ضلال﴾ أي: ذهاب حائد عن الحق ﴿بعيد﴾ جداً عن الصواب فإن لها من الأدلة الظاهرة ما ألحقها بالمحسوسات، كما قال القائل لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
ولما أنزل الله عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، كان ذلك من لطف الله تعالى بعباده كما قال عز من قائل:
﴿الله﴾ أي: الذي له الأمر كله ﴿لطيف﴾ أي: بالغ في اللطف والعلم وإيقاع الإحسان ﴿بعباده﴾ وقال ابن عباس: حق بهم، وقال عكرمة: بارّ بهم وقال السدي: رفيق بهم، وقال القشيري: اللطيف: العالم بدقائق الأمور وغوامضها، وقال الرازي: هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي أما لطفه بالمؤمنين فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله تعالى: ﴿يرزق من يشاء﴾ أي: مهما شاء على سبيل من السعة والضيق أو التوسعة لا مانع له من شيء من ذلك، فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله تعالى أن يرزقه، قال جعفر الصادق: اللطف في الرزق من وجهين؛ أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات والثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة ﴿وهو القوي﴾ أي: القادر على ما يشاء ﴿العزيز﴾ فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده.
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ويرغب في رزق الروح فقال تعالى على سبيل الاستئناف:
﴿من كان﴾ أي: من شريف أو دني ﴿يريد﴾ أي: بعمله ﴿حرث الآخرة﴾ أي: أعمالها والحرث في اللغة الكسب ﴿نزد له﴾ أي: بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها ﴿في حرثه﴾ قال مقاتل: بأن يعينه على الأعمال الصالحة ويضاعف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله تعالى من الزيادة، وقال الزمخشري: إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز ﴿ومن كان﴾ أي: من قوي أو ضعيف ﴿يريد﴾ أي: بعمله ﴿حرث الدنيا﴾ أي: أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي وتستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة ﴿نؤته منها﴾ أي: ما قسمناه له ولو تهاون به ولم يطلبه لآتاه، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الهاء، واختلس قالون كسرة الهاء، وعن هشام اختلاس الكسرة في الهاء والإشباع، والباقون بإشباع الكسرة ﴿وما﴾ أي: والحال أن طالب الدنيا بعمله ما ﴿له في الآخرة من نصيب﴾ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وروى أبي بن كعب أن النبي ﷺ قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكن في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب». أي: لأن هذا تهاون بالآخرة فلم يبنوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها فإنها ضرة الدنيا وضدها، فالدنيا بخساستها تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب وصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في الزائد الباقي أولى من صرفها لما يكون
ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل: ﴿إذا دكت الأرض﴾، أي: حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه ﴿دكاً دكاً﴾، أي: مرّة بعد مرّة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم.
﴿وجاء ربك﴾ قال الحسن: أمره وقضاؤه ﴿والملك﴾، أي: الملائكة. وقوله تعالى: ﴿صفاً صفاً﴾ حال، أي: مصطفين، أي: ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس. ﴿ {
{وجيء﴾، أي: بأسهل أمر ﴿يومئذ﴾، أي: إذ وقع ما ذكر ﴿بجهنم﴾، أي: النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى: ﴿وبرزت الجحيم﴾ (النازعات: ٣٦)
ويروى «أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله ﷺ فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا علياً فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه، ثم قال: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال: نفسي نفسي إلا محمد ﷺ فيقول: رب أمّتي أمّتي». وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش.
وقوله تعالى: ﴿يومئذ﴾، أي: يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها ﴿يتذكر الإنسان﴾، أي: يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها ﴿وأنى له الذكرى﴾، أي: ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري: لا بد من حذف مضاف وإلا فبين ﴿يتذكر﴾ وبين ﴿وأنى له الذكرى﴾ تناف وتناقض.
تنبيه: أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ ﴿وأنى﴾ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ ﴿الذكرى﴾ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
﴿يقول﴾، أي: يقول مع تذكره ﴿يا﴾ للتنبيه ﴿ليتني قدّمت لحياتي﴾، أي: في حياتي فاللام بمعنى في، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها، أو وقت حياتي في الدنيا.
﴿فيومئذ﴾، أي: يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ ﴿لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد﴾ الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى: لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.
ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى:
﴿يا أيتها النفس المطمئنة﴾ قال الحسن، أي: المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد: الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان: المخلصة. وقال ابن زيد: التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، ويقال لها: عند الموت.
﴿ارجعي إلى ربك﴾، أي: إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى