واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ مرتكب الكبيرة من أهل الإيمان لا يبقى مخلداً في النار من وجهين: الأوّل قوله تعالى: ﴿وفي النار هم خالدون﴾ يفيد الحصر أي: هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا وارداً في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار عن كفرهم، فلو كان هذا الحكم جزاء لغير الكافر لما صح تهديد الكافر به. وفي الكشاف: أن الكبيرة تهدم الأعمال وهو جار على مذهبه الفاسد، ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى:
﴿إنما يعمر مساجد الله من آمن با واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش﴾ أحداً ﴿إلا الله﴾ أي: إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان برسوله ﷺ مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان؟ أجيب: بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافياً، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول ﷺ مذكوراً بطريق أبلغ وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وقيل: إن المشركين كانوا يقولون: إنّ محمداً إنما ادّعى رسالة الله طلباً للرّياسة والملك، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة.
فإن قيل: كيف قال تعالى: ﴿ولم يخش إلا الله﴾ والمؤمن يخاف الظَلَمة والمفسدين؟ أجيب: بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف. وإذا اعترضه أمران: أحدهما: حق الله تعالى، والآخر: حق نفسه؛ أن يخاف الله تعالى، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم. ومن عمارة المساجد: ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها، وإدامة العبادة فيها والذكر. ومن الذكر درس العلم فيها، بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا.
روي أنه ﷺ قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة». وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش». وفي «الكشاف» : أنه ﷺ قال: «قال الله تعالى: إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره». قال شيخ شيخنا ابن حجر: لم أجده هكذا، وفي الطبراني عن سلمان رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره».
وروي عنه ﷺ «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» وقال ﷺ «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». وعن أنس رضي الله عنه: من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه.
وروي أنه ﷺ قال: «من غدا إلى المسجد وراح أعد الله تعالى له نزلاً
الوصفين ﴿وأنت خير الراحمين﴾ فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة المؤمنون بشرته الملائكة بالروح والريحان، وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» حديث موضوع، وقوله أيضاً تبعاً للزمخشري: روي أن أول سورة قد أفلح وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع آيات من آخرها فقد نجا وأفلح، قال شيخ شيخنا ابن حجر حافظ عصره: لم أجده.
سورة النور
مدنية
وهي ثنتان أو أربع وستون آية
﴿بسم الله﴾ الذي تمت كلمته فبهرت قدرته ﴿الرحمن﴾ الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته ﴿الرحيم﴾ الذي شرف من اختاره بخدمته قوله تعالى:
﴿سورة﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة أي: عظيمة أو سورة أنزلناها، مبتدأ موصوف والخبر محذوف أي: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقال الأخفش: لا يبعد الابتداء بالنكرة، فسورة مبتدأ، وأنزلناها خبره، ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنوينها للتعظيم بقوله تعالى: ﴿أنزلناها﴾ أي: بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة ﴿وفرضناها﴾ أي: قدرنا ما فيها من الحدود، وقيل: أوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة الفروض، والباقون بالتخفيف ﴿وأنزلنا فيها آيات﴾ من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها ﴿بينات﴾ أي: واضحات الدلالة ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي: تتعظون، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد، ثم إنه تعالى ذكر في السورة أحكاماً كثيرة: الحكم الأول: قوله تعالى: ﴿الزانية والزاني﴾ أي: غير المحصنين لرجمهما بالسنة وأل فيما ذكر موصولة وهو مبتدأ ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره وهو ﴿فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ أي: ضربة يقال: جلده إذا ضرب جلده، ويزاد على ذلك بالسنة تغريب عام، والرقيق على النصف مما ذكر، ولا رجم عليه لأنه لا يتنصف.
واعلم أن الزنا من الكبائر، ويدل عليه أمور: أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: ﴿ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً﴾ (الفرقان، ٦٨)، ثانيها: قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً﴾ (الإسراء، ٣٢)، ثالثها: أن الله تعالى أوجب المائة فيه بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرّع فيه الرجم، وروى حذيفة عن النبي ﷺ أنه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار»، وعن عبد الله قال: «قلت: يار رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك،
كما تقول: زيد رجل أي: كامل في الرجولية وأيما رجل ﴿لهم عذاب﴾ كائن ﴿من رجز﴾ أي: شديد العذاب ﴿أليم﴾ أي: بليغ الإيلام.
ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم:
﴿الله﴾ أي: الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال ﴿الذي سخر﴾ أي: وحده من غير حول منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه ﴿لكم البحر﴾ أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة ﴿لتجري الفلك﴾ أي: السفن ﴿فيه بأمره﴾ أي: بإذنه ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها، ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشياء؛ أحدها: الرياح التي توافق المراد، وثانيها: خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك، وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه، وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر ﴿ولتبتغوا﴾ أي: تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك ﴿من فضله﴾ لم يصنع شيئاً منه سواه ﴿ولعلكم تشكرون﴾ نعمه على ذلك.
﴿وسخر لكم ما في السموات﴾ من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه ﴿وما في الأرض﴾ من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره ولو شاء لجعله كما في السماء لا وصول لكم إليه وقوله تعالى ﴿جميعاً﴾ توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل: حال من ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ وقوله تعالى ﴿منه﴾ حال أي: سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك، قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه، وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه وإحسان، وقال بعض العارفين: سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه ﴿إن في ذلك﴾ أي: الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون ﴿لآيات﴾ أي: دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا ﴿لقوم﴾ أي: ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم ﴿يتفكرون﴾ فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً واختلف في سبب نزل قوله تعالى:
﴿قل﴾ أي: يا أفضل الخلق ﴿للذين آمنوا﴾ ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى ﴿يغفروا﴾ أي: يستروا ستراً بالغاً ﴿للذين لا يرجون أيام الله﴾ أي: مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال، فقال ابن عباس: «نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر: قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي ﷺ وقرب أبي بكر رضي الله عنه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وقال مقاتل: إن رجلاً من بني غفار شتم عمر
الإشارة إلى بعض ذلك. فإن قيل: ما معنى المراآة؟ أجيب: بأنها مفاعلة من الإراءة، لأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله ﷺ «ولا غمة في فرائض الله» لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين، ولأنّ تاركها يستحق الذم والمقت فوجب إناطة الهمة بالإظهار، وإن كان تطوّعاً فحقه أن يخفي لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصداً للاقتدار به كان جميلاً.
وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطال، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة على أنّ اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال ﷺ «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود».
ثم بين أن من هو بهذه الصفة يغلب عليه الشح بقوله تعالى:
﴿ويمنعون﴾ أي: على تجدد الأوقات ﴿الماعون﴾ أي: حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الماعون الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال مجاهد: الماعون أعلاها الزكاة المفروضة، وأدناها عارية المتاع. وعن عليّ أنها الزكاة. وقال محمد بن كعب الكلبيّ: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.
وقال قطرب: أصل الماعون من القلة، تقول العرب: ما له سعنة ولا معنة، أي: شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعوناً لأنه قليل من كثير وقيل: الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة أرأيت غفر له إن كان للزكاة مؤدّياً» حديث موضوع.
سورة الكوثر وتسمى سورة النحر مكية
في قول ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي لا حد لفائض فضله ﴿الرحمن﴾ الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره ﴿الرحيم﴾ الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله
وقوله تعالى: ﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿أعطيناك﴾ أي: خوّلناك مع التمكين العظيم يا أشرف الخلق ﴿الكوثر﴾ أي: نهراً في الجنة هو حوضه ﷺ ترد عليه أمّته، لما روي عن أنس أنه قال: «بينما رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ ﴿بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر﴾ إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: فإنه نهر وعدنيه ربي خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمّتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك». وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر


الصفحة التالية
Icon