خافوا عقابه ﴿واعلموا أنّ الله غفور﴾ لمن عزم ولم يفعل خوفاً من الله ﴿حليم﴾ لا يعاجلكم بالعقوبة.
أي: تجامعوهنّ ﴿أو﴾ لم ﴿تفرضوا لهنّ فريضة﴾ أي: مهراً، وما مصدرية ظرفية، أي: لا تبعة عليكم في الطلاق زمن عدم المسيس والفرض بإثم ولا مهر، والتبِعة بكسر الباء: ما يتبع المال أو البدن من نوائب الحقوق، وهو من تبعت الرجل بحقي. وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون بفتح التاء ولا ألف بعد الميم.
وقوله تعالى: ﴿ومتعوهن﴾ عطف على مفسد، ولأنه طلب فلا يعطف على «لا جناح» ؛ لأنه خبر أي: فطلقوهنّ ومتّعوهن، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، ويسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهماً أو ما قيمته ذلك، وإذا تراضيا بشيء فذاك، وإن تنازعا في قَدْرِها قَدّرَها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره، ونسبها وصفاتها، كما قال تعالى: ﴿على الموسع﴾ أي: الغني منكم ﴿قدره﴾ أي: ما يطيقه ويليق به ﴿وعلى المقتر﴾ أي: ضيق الرزق ﴿قدره﴾ أي: ما يطيقه ويليق به. ويدل عليه قوله ﷺ لأنصاري طلق امرأته المفوّضة قبل أن يمسها: «أمتعتها» قال: لم يكن عندي شيء قال: «متعها بقلنسوتك». ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوّضة التي لم يمسها الزوج، وألحق بها الشافعي رضي الله تعالى عنه الممسوسة المفوّضة وغيرها قياساً وهو مقدّم على المفهوم.
وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الدال، والباقون بسكونها وقوله تعالى: ﴿متاعاً﴾ تأكيداً لمتعوهن بمعنى تمتيعاً وقوله تعالى: ﴿بالمعروف﴾ أي: شرعاً صفة «متاعاً» وقوله تعالى: ﴿حقاً﴾ صفة ثانية لمتاعاً أي: متاعاً واجباً عليهم، أو مصدر مؤكد أي: حق ذلك حقاً ﴿على المحسنين﴾ أي: المطيعين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلقات بالتمتيع، وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلاً فله سلبه» ترغيباً وتحريضاً. ولما ذكر الله تعالى حكم المفوّضة أتبعها حكم قسيمها بقوله تعالى:
﴿وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم﴾ يجب لهن ويرجع لكم النصف، وهو دليل على أنّ الجناح المنفي ثم تبعة المهر، وأن لا متعة مع التشطير؛ لأنه قسيمها ﴿إلا﴾ لكن ﴿أن يعفون﴾ أي: الزوجات فلا يأخذن شيئاً.
فإن قيل: أي فرق بين قولك: الرجال يعفون والنساء يعفون؟ أجيب: بأن الواو في الأوّل ضمير هم، والنون علم الرفع والواو في الثاني لام الفعل، والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، وهو في محل النصب.
﴿أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح﴾ وهو الزوج المالك لعقده وحله، كما يعود إليه بالتشطير فيترك لها الكل. وقيل: هو الولي إذا كانت المرأة محجورة، وهو قول قديم للشافعيّ، وهو مروي عن ابن عباس، وقوله تعالى: ﴿وأن تعفوا﴾ مبتدأ خبره ﴿أقرب للتقوى﴾ والخطاب للرّجال والنساء جميعاً؛ لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا كانت الغلبة للمذكر أي: وعفو بعضكم عن بعض أقرب للتقوى ﴿ولا تنسوا الفضل بينكم﴾ أي: أن يتفضل بعضكم على بعض بإعطاء الرجل تمام الصداق أو بترك المرأة نصيبها، حثهما جميعاً على الإحسان ﴿إنّ الله بما تعملون بصير﴾ لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم به.
﴿حافظوا على الصلوات﴾ الخمس بأدائها في أوقاتها، ولعل الأمر
هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرّة الدائمة الخالصة عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال، ولم يذكر تعالى الزيادة هاهنا؛ لأنه تعالى ذكرها في سورة أخرى وهي قوله تعالى ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة﴾ (يونس، ٢٦) هذا ما لأهل الحق، وأمّا ما لأهل الباطل فهو ما ذكره بقوله جل من قائل: ﴿والذين لم يستجيبوا له﴾ وهم الكفرة فلهم أنواع ثلاثة من العذاب والعقوبة، فالنوع الأوّل قوله تعالى: ﴿لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به﴾، أي: جعلوه فكاك أنفسهم بغاية جهدهم؛ لأنّ المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته، وكل ما هو سواه فهو إنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته، فإذا كانت النفس في الضر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجناس والأرواح، فإنه يرضى بأن يجعله فداء نفسه؛ لأنّ المحبوب بالعرض لا بدّ وأن يكون فداء لما كان محبوباً بالذات، والكناية في به عائدة إلى ما في قوله ما في الأرض.d
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى: ﴿أولئك لهم سوء الحساب﴾ وهو المناقشة فيه، وعن النخعي بأن يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفر منه شيء، وإنما نوقشوا؛ لأنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين من الفوز بسعادة خدمة المولى.
والنوع الثالث من عقوباتهم ما ذكره بقوله تعالى: ﴿ومأواهم﴾، أي: مرجعهم ﴿جهنم﴾ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاشتغال بخدمة المولى عاشقين للذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم، فيحترقون على مفارقتها، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك كان مأواهم جهنم. ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى بقوله عز من قائل: ﴿وبئس المهاد﴾، أي: الفراش، والمخصوص بالذم محذوف، أي: جهنم. ونزل في حمزة وأبي جهل، وقيل: في عمار وأبي جهل.
﴿أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق﴾، أي: يؤمن به ويعمل بما فيه، وهو حمزة أو عمار رضي الله تعالى عنهما. ﴿كمن هو أعمى﴾، أي: أعمى البصيرة ولا يؤمن به ولا يعمل بما فيه وهو أبو جهل، قال ابن الخازن في تفسيره: وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصاً، والمعنى: لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن هو لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي لرشد ﴿إنما يتذكر﴾، أي: يتعظ ﴿أولو الألباب﴾، أي: أصحاب العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها، ويعبرون من ظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
﴿الذين يوفون بعهد الله﴾، أي: ما عاقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا: بلى، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. ﴿ولا ينقضون الميثاق﴾، أي: ما واثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى، وبينهم وبين العباد، فهو تعميم بعد تخصيص.
﴿والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل﴾، أي: من الإيمان والرحم وغير ذلك، والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم. عن أبي موسى أنّ عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله ﷺ يقول: فيما يحكي عن ربه تعالى: «أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، أو قال: بتته». وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله ﷺ «الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله». وعن
الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير، والمعنى أما لهذا الكافر المكذب مثوى في جهنم حتى اجترأ مثل هذه الجراءة؟.
﴿والذين جاهدوا﴾ أي: أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دلّ عليه بالمفاعلة ﴿فينا﴾ أي: بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدّة والرخاء ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا ﴿لنهدينهم﴾ مما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه هداية تليق بعظمتنا ﴿سبلنا﴾ أي: طريق السير إلينا وهي الطريق المستقيمة والطريق المستقيمة هي التي توصل إلى رضا الله عز وجل، قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور فإنّ الله تعالى قال ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ وقال الحسن: الجهاد مخالفة الهوى، وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به، وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا، وقال أبو سليمان الداراني: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا، وعن بعضهم: من عمل بما يعلم وفق لما لم يعلم، وقيل: إن الذي نرى من جهلنا بما لم نعلم إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم، وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعة، وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة، والباقون بضمها ﴿وإن الله﴾ أي: بعظمته وجلاله وكبريائه ﴿لمع المحسنين﴾ أي: المؤمنين بالنصرة والمعونة في دنياهم والمغفرة والثواب في عقباهم، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشريّ من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين» فهو حديث موضوع، ورواه ابن عادل عن أبي أمامة عن أبي بن كعب.
سورة الروم
مكية وهي ستون آية، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي يملك الأمر كله ﴿الرحمن﴾ الذي رحم الخلق كلهم بنصب الدلائل ﴿الرحيم﴾ الذي لطف بأوليائه وقوله تعالى:
﴿الم﴾ تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة، وقال البقاعي: لما ختم سبحانه وتعالى التي قبلها بأنه مع المحسنين قال: ﴿ألم﴾ مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم السلام إلى أشرف خلقه محمد ﷺ المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته وكمال علم مرسله وشمول قدرته ووجوب وحدانيته.
﴿غلبت الروم﴾ وهم أهل كتاب، غلبتهم فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان.
﴿في أدنى الأرض﴾ أي: أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، التقى فيها الجيشان والبادي بالغزو الفرس ﴿وهم﴾ أي: الروم ﴿من بعد غلبهم﴾ أضيف المصدر إلى المفعول أي: غلبة فارس إياهم ﴿سيغلبون﴾ فارس.
﴿في بضع سنين﴾ وهو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر، فالتقى الجيشان في السنة السابعة
يشاء الله أطعمه منكرين لقدرته تعالى على الإطعام.
وقوله ﷺ «القدرية مجوس هذه الأمة» إن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقوم فالقدرية في زمانه ﷺ هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة؛ وإن كان المراد بالأمة من آمن به ﷺ فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة؛ فإنّ المجوس أضعف الكفرة المتقدّمين شبهة وأشدّ مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة؛ وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار فالحق أنّ القدري: هو الذي ينكر قدرة الله تعالى وقد ردّ عليهم بالكتاب والسنة.
أما من الكتاب فقوله تعالى:
﴿إنا﴾ أي: بمالنا من العظمة ﴿كل شيء﴾ من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها ﴿خلقناه بقدر﴾ أي: قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقوّة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه.
وأمّا من السنة: فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قال وعرشه على الماء. وعن طاووس اليماني قال: أدركت ما شاء الله تعالى من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون كل شيء بقدر الله تعالى؛ قال: وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله ﷺ «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ «لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله: بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر؛ وزاد عبد الله خيره وشره».
تنبيه: ﴿كل شيء﴾ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ كل شيء بفعله بيّن يسر ذلك وسهولته عليه بقوله تعالى: ﴿وما أمرنا﴾ في كل شيء أردناه وإن عظم أمره ﴿إلا واحدة﴾ أي: فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك أحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية؛ وقيل إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى ﴿كن﴾ كما قال تعالى: ﴿إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ (النحل: ٤٠)
ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما نعقله وأخفه بقوله تعالى: ﴿كلمح بالبصر﴾ واللمح النظر بالعجلة وفي الصحاح لمحة وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف أي فكما أن لمح أحدكم بصره لا كلفة عليه فيه فكذلك الأفعال كلها عندنا بل أيسر؛ وعن ابن عباس معناه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.
﴿ولقد أهلكنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿أشياعكم﴾ أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة والقدرة عليكم كالقدرة عليهم فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ولذلك سبب عنه قوله تعالى: ﴿فهل من مدكر﴾ أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعف وأنّ قدرته تعالى عليه كقدرته تعالى عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته والاستفهام بمعنى الأمر أي ادكروا واتعظوا.
﴿وكل شيء فعلوه﴾ قال الجلال المحلي: أي: العباد. وقال أكثر المفسرين: أي: الأشياع لأنه هو المتقدم ذكره ﴿في الزبر﴾ أي مكتوب في دواوين الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: في أم الكتاب فلتحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية هذا ما أطبق


الصفحة التالية
Icon