ثمرها من أعلاها في كلها نفع حتى في خشبها مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله ﴿وأعناب﴾ جمع عنب وهو شجر الكرم لا يختص ثمره بجهة العلو اختصاص النخلة، بل يتفرّع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة، مثله كمثل المؤمن المتّقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة.
ولما كانت الجنان لا تقوم ولا تدوم إلا بالماء قال تعالى: ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي: من تحت هذه الأشجار ﴿له فيها﴾ أي: الجنة ثمر مع ثمر النخل والعنب ﴿من كل الثمرات﴾ فهي محتوية على سائر أنواع الأشجار، وإنما خص النخل والعنب بالذكر لشرفهما وكثرة منافعهما وحسن منظرهما ﴿وأصابه﴾ أي: والحال أنه أصابه ﴿الكبر﴾ أي: كبر السنّ فصار لا يقدر على اكتساب. ﴿وله ذرية ضعفاء﴾ بالصغر كما ضعف هو بالكبر ﴿فأصابها﴾ أي: الجنة ﴿إعصار﴾ وهو الريح العاصف الذي يرتفع إلى السماء كأنها عمود، وتسميها العامة الزوبعة وجمعه أعاصر، والإعصار من بين سائر الرياح مذكر، ولهذا رجع إليه الضمير مذكراً في قوله: ﴿فيه نار فاحترقت﴾ تلك الجنة ففقدها أحوج ما كان إليها، وبقي هو وأولاده عجزة متحيرين لا حيلة لهم.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المنافق والمرائي يقول عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بها فإذا كبر وضعف وصار له أولاد ضعفاء صغار أصاب جنة إعصار فيه نار فاحترقت أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها لكبره، وضعفت أولاده عن إصلاحها، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده، ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزة لا حيلة لهم، كذلك يبطل الله تعالى عمل المنافق والمرائي في الآخرة، حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة، والاستفهام بمعنى النفي.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ضرب لرجل عمل بالطاعات، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
﴿كذلك﴾ أي: مثل هذا البيان ﴿يبين الله﴾ أي: الذي له الكمال كله ﴿لكم الآيات لعلكم﴾ أي: لكي ﴿تتفكرون﴾ فيها فتعتبرون بها.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الإنفاق على قسمين وبين كل قسم وضرب له مثلاً ذكر كيفية الانفاق بقوله تعالى:
﴿يأيها الذين آمنوا أنفقوا﴾ أي: زكوا ﴿من طيبات﴾ أي: جياد ﴿ما كسبتم﴾ من المال والتجارة والصناعة، وفيه دلالة على إباحة الكسب، وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإنّ ولده من كسبه» وقال ﷺ «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده» وكان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده.
والزكاة واجبة في مال التجارة فبعد الحول تقوم العروض، فيخرج من قيمتها عشرين ديناراً، أو مائتي درهم فضة فيزكيها، قال سمرة بن جندب: «كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعدّ للبيع».
﴿ومما﴾ أي: ومن طيبات ما ﴿أخرجنا لكم من الأرض﴾ من الحبوب والثمار والمعادن فحذف المضاف وهو طيبات من الثاني لتقدّم ذكره. وفي هذا أمر بإخراج العشر من الثمار والحبوب، واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقياً بماء السماء، أو من نهر يجري الماء فيه من غير مؤنة، وإن كان مسقياً بساقية أو نضح ففيه نصف العشر، لقوله ﷺ «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما يسقي بالنضح نصف العشر»
ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في شرح حال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء، وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل، وذلك أنّ الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى:
﴿وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ وكونها دائمة أشير إليها بقوله تعالى: ﴿خالدين فيها﴾ وهو حال مقدرة، والتعظيم حصل لهم من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: ﴿بإذن ربهم﴾ ؛ لأنّ تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله تعالى وإنعاماً. والثاني: قوله تعالى: ﴿تحيتهم فيها سلام﴾ ؛ لأنّ بعضهم يحيى بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال تعالى: ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم﴾ (الرعد: ٢٣، ٢٤)
والرب يحييهم أيضاً بهذه التحية كما قال تعالى: ﴿سلام قولاً من رب رحيم﴾ (يس، ٥٨)
ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع آفات الدنيا وحسراتها وفنون آلامها وأسقامها وأنواع همومها وغمومها؛ لأنّ السلام مشتق من السلامة. ولما شرح سبحانه تعالى أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين بقوله تعالى:
﴿ألم تر﴾، أي: تنظر، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ ﷺ ويدخل معه غيره، وأن يكون لكل فرد من الناس، أي: ألم تر أيها الإنسان ﴿كيف ضرب الله﴾، أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿مثلاً﴾ سيره بحيث يعم نفعه، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل، ثم بينه بقوله تعالى: ﴿كلمة طيبة﴾ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي لا إله إلا الله. ﴿كشجرة طيبة﴾ قال ابن مسعود وأنس: هي النخلة. وعن ابن عباس: هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ قال ذات يوم: «إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله ﷺ أن أقولها وأنا صغير القوم». وروي: فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر: يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله ﷺ «ألا إنها النخلة». قيل: الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها، وأنها تشبه الإنسان بحيث أنها لا تحمل إلا باللقاح؛ لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولذلك قال ﷺ «أكرموا عمتكم قيل: ومن عمتنا؟ قال: النخلة». ﴿أصلها ثابت﴾، أي: في الأرض ﴿وفرعها﴾، أي: غصنها ﴿في السماء﴾، أي: في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه. ﴿تؤتي﴾، أي: تعطي. ﴿أكلها﴾، أي: ثمرها
﴿كل حين بإذن ربها﴾، أي: بإرادته، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقدار هذا، فقال مجاهد: الحين هنا سنة كاملة؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة: ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع: كل حين يعني كل غدوة وعشية؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل
ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى
الخلق ﴿بآية﴾ مثل العصا واليد لموسى عليه السلام ﴿ليقولنّ الذين كفروا﴾ منهم ﴿إن﴾ أي: ما ﴿أنتم إلا مبطلون﴾ أي: أصحاب أباطيل، فإن قيل: لم وحد في قوله تعالى ﴿جئتهم﴾ وجمع في قوله تعالى ﴿إن أنتم﴾ ؟ أجيب: بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال: ﴿ولئن جئتهم بكل آية﴾ أي: جاءت بها الرسل فقال الكفار: ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي: إن أنتم أي: محمد وأصحابه، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون.
﴿كذلك﴾ أي: مثل هذا الطبع العظيم ﴿يطبع الله﴾ أي: الذي له العظمة والكمال ﴿على قلوب الذين لا يعلمون﴾ توحيد الله، فإن قيل: من لا يعلم شيئاً أي: فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟ أجيب: بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل. ثم إنه تعالى سلّى نبيه ﷺ بقوله تعالى:
﴿فاصبر﴾ أي: على إنذارهم مع هذا الجفاء والردّ بالباطل والأذى فإنّ الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا ﴿إنّ وعد الله﴾ أي: الذي له الكمال كله بنصرك وإظهار دينك على الدين كله وفي كل ما وعد به ﴿حق﴾ أي: ثابت جدّاً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان وتأتي به مطايا الحدثان. ولما كان التقدير فلا تعجل عطف عليه قوله تعالى ﴿ولا يستخفنك﴾ أي: يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره وتنفيرك عن التبليغ ﴿الذين لا يوقنون﴾ أي: أذى الذين لا يصدقون بوعدنا من البعث والحشر وغير ذلك تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون وأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون فهم بالغون في العداوة والتكذيب حتى إنهم لا يصدّقون في وعد الله بنصر الروم على فارس كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أنّ ذلك لا يكون. فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهاره عن قرب علموا كذبهم عياناً، وعلموا إن كان لهم علم أنّ الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون ويحشرون وهم داخرون.
﴿وسيعلم الذين ظلموا أي: منقلب ينقلبون﴾ فقد انعطف آخر السورة على أوّلها واتصل به اتصال القريب بالقريب. وها أنا أسأل الله تعالى القريب المجيب أن يغفر ذنوب من كتب هذا وهو محمد الشربيني الخطيب ويفعل ذلك بوالديه وأولاده ومشايخه وكل محب له وحبيب، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن النبي ﷺ «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع في يومه وليلته» حديث موضوع رواه الثعلبيّ في تفسيره والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة لقمان
مكية أو إلا ﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام﴾ الآيتينوهي أربع أو ثلاث وثلاثون آية، وخمسمائة وثمانوأربعون كلمة، وألفان ومائة وعشرة أحرف
﴿بسم الله﴾ أي: الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ﴿الرحمن﴾ الذي شملت نعمته سائر بريته ﴿الرحيم﴾ بأوليائه فخصهم بمعرفته قوله تعالى:
﴿ألم﴾ تقدّم الكلام عليه في أوّل سورة البقرة، وقيل: إنه أشار بذلك إلى أن الله الملك الأعلى أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد ﷺ بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام
كاذبة} مصدر بمعنى الكذب والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى: ﴿لا تسمع فيها لاغية﴾ (الغاشية: ١١)
أي: لغو والمعنى: ليس لها كذب قاله الكسائي، أو صفة والموصوف محذوف أي: ليس لوقعتها حال كاذبة، أي: كل من يخبر عن وقعتها صادق، أو نفس كاذبة بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا وقال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة أي: لا يردها شيء، وقيل: إنّ قيامها جد لا هزل وقوله تعالى: ﴿خافضة رافعة﴾ تقرير لعظمتها وهو خبر لمبتدأ محذوف أي: هي، قال عكرمة ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني: أسمعت القريب والبعيد. وعن السدى خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.
وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله تعالى ورفعت أقواماً إلى طاعة الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى في النار ورفعت أولياء الله تعالى في الجنة. وقال ابن عطاء: خفضت قوماً بالعدل ورفعت آخرين بالفضل. ولا مانع أنّ كل ذلك موجود فيها والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة؛ ونسب سبحانه وتعالى الخفض والرفع إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لا يمكن منه الفعل، يقولون: ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل: ﴿بل مكر الليل والنهار﴾ (سبأ: ٣٣)
والخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى، واللام في قوله تعالى: ﴿لوقعتها﴾ إمّا للتعليل أي: لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدّة وقعتها، وإمّا للتعدية كقولك ليس لزيد ضارب، فيكون التقدير إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها أمر يوجد لها كاذب إذا أخبر عنه.
قال الرازي: وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب ﴿إذا رجت الأرض﴾ أي: كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر ﴿رجاً﴾ أي: حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، قال بعض المفسرين: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها، والرجرجة: الاضطراب، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث: «من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له». يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.
ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى: ﴿وبست الجبال بساً﴾ أي: فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه؛ قال ابن عباس ومجاهد: كما يبس الدقيق أي: يلت، والبسيسة السويق، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زاداً قال الراجز:

*لا تخبزا خبزاً وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبساً*
أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها، وقلت: بس بس قاله أبو زيد؛ وقال الحسن: بست قلعت من أصلها فذهبت، ونظيرها ينسفها ربي نسفاً؛ وقال عطية: بسطت بالرمل والتراب ﴿فكانت﴾ أي: بسبب ذلك ﴿هباء﴾ أي: غباراً هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى: ﴿منبثاً﴾ أي: منتشر متفرّقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة؛ وعن ابن عباس: هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً ﴿وكنتم﴾ أي: قسمتم بما كان في جبلاتكم


الصفحة التالية
Icon