المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعد النبوّة ﴿وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين﴾ (النمل، ١٩) فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات.
﴿قالت ربّ﴾ أي: يا سيدي فقولها لله عز وجلّ وقيل: قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي ﴿أنى﴾ أي: كيف ﴿يكون لي ولد ولم يمسسني بشر﴾ أي: ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره، قالت ذلك تعجباً إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاماً عن أن يكون بتزوّج أو بغيره ﴿قال﴾ الأمر ﴿كذلك﴾ من خلق ولد منك بلا أب ﴿الله يخلق ما يشاء﴾ القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى ﴿إذا قضى أمراً﴾ أي: أراد كون شيء ﴿فإنما يقول له كن﴾ صر وقرأ ﴿فيكون﴾ ابن عامر بفتح النون، والباقون بضمها أي: فهو يكون؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجاً بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك وقوله تعالى:
﴿ونعلمه الكتاب﴾ أي: الكتابة ﴿والحكمة﴾ أي: العلم المقترن بالعمل ﴿والتوراة والإنجيل﴾ كلام مستأنف ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل: المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون.
﴿و﴾ نجعله ﴿رسولاً إلى بني إسرائيل﴾ إما في الصبا أو بعد البلوغ وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثه إليهم وللردّ على من زعم أنه مبعوث إلى غيره.
فائدة: كان أوّل أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب وآخرهم عيسى عليهم الصلاة والسلام، ولما بعث إليهم قال لهم: إني رسول الله إليكم ﴿أني﴾ أي: بأني ﴿قد جئتكم بآية﴾ أي: علامة ﴿من ربكم﴾ تصدّق قولي، وإنما قال بآية وقد أتى بآيات؛ لأنّ الكل دل على شيء واحد وهو صدقه في الرسالة.
ولما قال ذلك لبني إسرائيل قالوا: وما هي؟ قال: هي ﴿إني﴾ قرأ نافع وحده بكسر الهمزة على الاستئناف، وفتح الياء من إني نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون ﴿أخلق﴾ أي: أصوّر ﴿لكم من الطين كهيئة الطير﴾ أي: مثل صورته فيصير طيراً كسائر الطيور وحياً طياراً، والكاف اسم مفعول وقرأ ورش بالمدّ على الياء من هيئة والتوسط كما تقدّم في شيء ﴿فأنفخ فيه﴾ الضمير للكاف أي: في ذلك المماثل للطير أي: في فيه ﴿فيكون طيراً بإذن الله﴾ أي: بإرادته نبه بذلك على أن إحياءه من الله تعالى لا منه، وقرأ نافع بألف بعد الطاء بعدها همزة مكسورة ورقق ورش الراء على أصله والباقون بياء ساكنة بعد الطاء من غير ألف فقراءة الجمع نظراً إلى أنه خلق طيراً كثيراً وقراءة المفرد نظراً إلى أنه نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفاش وإنما خص الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقاً؛ لأنّ له أسناناً وللأنثى ثدياً وتحيض، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الخلق من فعل الله وليعلم أنّ الكمال لله عز وجلّ.
﴿وأبرىء﴾ أي: أشفي ﴿الأكمه﴾ وهو الذي ولد أعمى أو ممسوح العينين. قال الزمخشريّ: ويقال لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب «التفسير» ولعل هذا على التفسير
أي: الشأن ﴿لا إله إلا أنا﴾ أي: لا إله غيري وقوله تعالى: ﴿فاتقون﴾ أي: خافوني رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود. تنبيه: في قوله تعالى: ﴿أن أنذروا﴾ ثلاثة أوجه أحدها: أنها المفسرة لأنّ الوحي فيه ضرب من القول والإنزال بالروح عبارة عن الوحي قال تعالى: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾ (الشورى، ٥٢)
. الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ووصلت بالأمر كقولهم: كتبت إليه بأن قم والآية تدل على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة وأنّ النبوّة عطاءة. ولما وحد سبحانه وتعالى نفسه ذكر الآيات الدالة على وحدانيته من حيث أنها تدلّ على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة بقوله تعالى:
﴿خلق السموات﴾ أي: التي هي السقف المظل ﴿والأرض﴾ أي: التي هي البساط المقل. ﴿بالحق﴾ أي: أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته ﴿تعالى﴾ أي: تعالياً فات الوصف ﴿عما يشركون﴾ به من الأصنام. ولما كان خلق السموات والأرض غيباً لتقدّمه وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة فتكون أقوى في الدلالة على وحدانيته تعالى قال تعالى: ﴿خلق الإنسان﴾ أي: هذا النوع ﴿من نطفة﴾ أي: آدم عليه السلام من مطلق الماء ومن تفرع منه بعد زوجه حوّاء من ماء مقيد بالدفق إلى أن صيره قوياً شديداً ﴿فإذا هو خصيم﴾ أي: شديد الخصومة ﴿مبين﴾ أي: بينها. روي أنّ أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث جاء إلى النبي ﷺ بعظم رميم فقال: تزعم يا محمد أنّ الله يحيي هذا العظم بعدما قد رمّ فنزلت هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى: ﴿قال من يحيي العظام وهي رميم﴾ (يس، ٧٨)
. قال الخازن في تفسيره: والصحيح أنّ الآية عامة في كل ما يقع فيه الخصومة في الدنيا ويوم القيامة وحملها على العموم أولى. ولما كان أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات وأشرفها الأنعام ذكرها بقوله تعالى:
﴿والأنعام﴾ أي: الأزواج الثمانية الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، ونصبه بفعل يفسره ﴿خلقها﴾. قال الواحدي: تم الكلام عند قوله: ﴿والأنعام خلقها﴾ ثم ابتدأ فقال: ﴿لكم فيها دفء﴾ أي: ما يدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار. قال: ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله: ﴿والأنعام خلقها لكم﴾ ثم ابتدأ فقال تعالى: ﴿فيها دفء﴾. قال الرازي: قال صاحب النظم: وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله تعالى: ﴿خلقها﴾ والدليل عليه أنه عطف عليه ﴿ولكم فيها جمال﴾ والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما ذكر تعالى الأنعام ذكر لها أنواعاً من المنافع الأوّل: قوله تعالى: ﴿لكم فيها دفء﴾. والنوع الثاني: قوله تعالى: ﴿ومنافع﴾ أي: ولكم فيها منافع من نسلها ودرها وركوبها والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وإنما عير تعالى عن ذلك بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم لأنّ الدر والنسل قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات، فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل. النوع الثالث: قوله تعالى: ﴿ومنها تأكلون﴾ فإن قيل: تقديم الظرف يفيد الحصر لأنّ تقديم
في سورة عيسى قدم ما للإنسان أولاً فما الحكمة؟ أجيب: بأن السياق فيها لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال: ﴿فلينظر الإنسان إلى طعامه﴾ (عبس: ٢٤)
ثم قال: ﴿فأنبتنا فيها حباً﴾ (عبس: ٢٧)
وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام فقدمه، وهذا السياق لمطلق إخراج الزرع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام ولا يصلح للإنسان. ولما كانت هذه الآية مبصرة قال ﴿أفلا يبصرون﴾ هذا فيعلموا أنا نقدر على إعادتهم بخلاف الآية الماضية فإنها كانت مسموعة فقال: ﴿أفلا يسمعون﴾.
ثم لما بين الرسالة والتوحيد بين الحشر بقوله تعالى:
﴿ويقولون﴾ أي: مع هذا البيان الذي ليس معه خفاء ﴿متى هذا الفتح﴾ أي: يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم وقيل: هو يوم بدر، وعن مجاهد والحسن يوم فتح مكة ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي: عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لابد من وقوعه حتى نؤمن إذا رأيناه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء الجهلة ﴿يوم الفتح﴾ أي: الذي تستهزئون به وهو يوم القيامة ﴿لا ينفع الذين كفروا﴾ أي: غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها، سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف ﴿إيمانهم﴾ لأنه ليس إيماناً بالغيب ﴿ولا هم ينظرون﴾ أي: يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منتظر ما، فإن قيل: قد سألوا عن وقت الفتح فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً عن سؤالهم؟ أجيب: بأنه كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما علم من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم: لا تستعجلوا بعد ولا تستهزؤا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم في إدارك العذاب فلم تنظروا.
فإن قيل: فمن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر، أجيب: بأن المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه حال إدراك الغرق وقوله تعالى:
﴿فأعرض عنهم﴾ أي: لا تبال بتكذيبهم ﴿وانتظر﴾ أي: إنزال العذاب بهم ﴿إنهم منتظرون﴾ أي: بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك، كان ذلك قبل الأمر بقتالهم وقيل: انتظر عذابهم بيقينك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاء كما قالوا ﴿فأتنا بما تعدنا﴾ (الأعراف: ٧٠)
وعن أبي هريرة قال: «كان رسول الله ﷺ يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل في الركعة الأولى، وهل أتى على الإنسان أي: في الركعة الثانية» وعن جابر قال: «كان النبي ﷺ لا ينام حتى يقرأ تبارك، وألم تنزيل، ويقول: هما يفضلان على كل سورة في القرآن بسبعين حسنة ومن قرأهما كتب له سبعون حسنة ورفع له سبعون درجة».
وعن أبيّ بن كعب أن النبي ﷺ قال: «من قرأ سورة ألم تنزيل أعطي من الأجر كمن أحيا ليلة القدر» وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عنه ﷺ «من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام» قال شيخ شيخنا ابن حجر: لم أجده. والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة الأحزاب
مدنية
إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقي بعدهم: نحن إذا
نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم
فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال وقوله تعالى: ﴿ما كتبناها﴾ صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك، قال ابن زيد: معناه ما فرضناها ﴿عليهم﴾ ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى: ﴿إلا ابتغاء رضوان الله﴾ أي: الملك الأعظم استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى: ما كتبناها عليهم الشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى: قضى فصار المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله ﴿فما رعوها حق رعايتها﴾ أي: ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد ﷺ ﴿فآتينا﴾ أي: بما لنا من صفات الكمال ﴿الذين آمنوا﴾ أي: بالنبيّ ﷺ ﴿منهم أجرهم﴾ أي: اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف ﴿وكثير منهم﴾ أي: من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا ﴿فاسقون﴾ أي: عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه السلام، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال: «دخلت على رسول الله ﷺ فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل: ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم﴾ » ثم قال النبي ﷺ «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم
الهالكون».
وعن ابن مسعود أيضاً قال: «كنت رديف رسول الله ﷺ على حمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه السلام يعنون محمداً ﷺ فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية ﴿ورهبانية ابتدعوها﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم﴾ يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي ﷺ يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة»
وعن أنس أنّ النبي ﷺ قال: «إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى» وعن ابن عباس قال: كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل