على الحال من جنات لتخصيصها بالوصف والعامل فيها معنى الظرف ﴿وما﴾ أي: والذي ﴿عند الله﴾ من الثواب لكثرته ودوامه ﴿خير للأبرار﴾ مما يتقلب فيه الكفار من متاع الدنيا لقلته وسرعة زواله، واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
﴿وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن با﴾ فقال جابر وابن عباس وأنس: نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل عليه الصلاة والسلام للنبيّ ﷺ في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» فقالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي» فخرج إلى البقيع وكشف له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبّر عليه أربع تكبيرات واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصرانيّ لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية»، وقال عطاء: نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبيّ ﷺ وقال ابن جريج: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب ﴿وما أنزل إليكم﴾ أي: القرآن ﴿وما أنزل إليهم﴾ أي: التوراة والإنجيل وقوله تعالى: ﴿خاشعين﴾ حال من ضمير يؤمن مراعى فيه معنى من لأنها في معنى الجمع أي: متواضعين ﴿لا يشترون﴾ أي: لا يستبدلون ﴿بآيات الله﴾ التي عندهم في التوراة والإنجيل من نعت النبيّ ﷺ ﴿ثمناً قليلاً﴾ من الدنيا بأن يكتموها خوفاً على الرياسة كما فعل غيرهم من اليهود ﴿أولئك لهم أجرهم﴾ أي: ثواب أعمالهم ﴿عند ربهم﴾ وهو ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله تعالى: ﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين﴾ وقوله تعالى: ﴿يؤتكم كفلين من رحمته﴾ ﴿إن الله سريع الحساب﴾ لنفوذ علمه في كل شيء فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر بحساب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا.
﴿يأيها الذين آمنوا اصبروا﴾ على مشاق الطاعة وما يصيبكم من الشدائد وعن المعاصي ﴿وصابروا﴾ أي: غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب فلا يكونوا أشد صبراً منكم ﴿ورابطوا﴾ أي: أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو قال الله تعالى: ﴿ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم﴾ (الأنفال، ٦٠)
وروي أنه ﷺ قال: «من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة».
وروي أنه ﷺ قال: «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» ﴿واتقوا الله﴾ في جميع أحوالكم ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي: تفوزون بالجنة وتنجون من النار وقال بعض العلماء: اصبروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا له الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء.
روى الطبريّ لكن بإسناد ضعيف: من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس أي: تغيب وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشري وتبعهما ابن عاد من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية منها أماناً على جسر جهنم» فهو من الأحاديث الموضوعة على أبي بن كعب في فضائل السور فليتنبه لذلك ويحذر منه، وقد نبه أئمة الحديث قديماً وحديثاً على ذلك وعابوا على من أورده من المفسرين في تفاسيرهم والله تعالى أعلم.
محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهمّ إلينا هل لقيت منها شيئاً قال: نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ثم وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه. قالوا هذه آية قال: ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فاسألوهما عن ذلك. قالوا: وهذه آية. قالوا: فأخبرنا عن عيرنا متى تجيء قال: مررت بها بالتنعيم قالوا: فما عدّتها وما حملها وما أحمالها ومن فيها. فقال: هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون: والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: هذه الشمس والله قد أشرقت فقال آخر: والله وهذه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين» والأورق من الإبل الذي في لونه بياض إلى سواد وهو أطيب الإبل لحماً قاله الجوهري.
ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذرّ يحدث أنّ رسول الله ﷺ قال: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، وجاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي وعرج بي إلى السماء فلما جئنا إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: ومن هذا؟ قال جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد. قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم ففتح، قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح. قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار وإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، ثم عرج بي جبريل حتى أتى إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها: مثل ما قال خازن السماء الدنيا. فقال أنس بن مالك فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يبين كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة. قال: فلما مرّ جبريل ورسول الله ﷺ بإدريس فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. قال: فقلت: من هذا؟ قال: إنه إدريس. قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح. قال: قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى فقال: ثم مررت بعيسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح. قال: فقلت من هذا؟ قال: عيسى، ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح. قال: فقلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم. قال ابن شهاب: أخبرني ابن حزم أنّ ابن عباس كان يقول كان النبيّ ﷺ يقول: ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صرير الأقلام».
وروى معمر عن قتادة عن أنس عن النبي ﷺ «أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجاً ملجماً فاستصعب عليه فقال جبريل أبمحمد تفعل هذا فماركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً وقال ابن زيد
«إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» وقوله تعالى:
﴿ليعذب الله﴾ أي: الملك الأعظم متعلق بعرضنا المترتب عليه حمل الإنسان ﴿المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ أي: المضيعين الأمانة.
تنبيه: لم يعد اسمه تعالى فلم يقل: ويعذب الله المشركين وأعاده في قوله تعالى ﴿ويتوب الله﴾ أي: بما له من العظمة ﴿على المؤمنين والمؤمنات﴾ أي: المؤدين للأمانة، ولو قال تعالى: ويتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً، ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف.
ولما ذكر تعالى في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر تعالى من أوصافه وصفين بقوله تعالى: ﴿وكان الله﴾ أي: على ما له من الكبرياء والعظمة ﴿غفوراً﴾ للمؤمنين حيث عفا عن فرطاتهم ﴿رحيماً﴾ بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم مكرماً لهم بأنواع الكرم. وما رواه البيضاوي من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» حديث موضوع رواه الثعلبي.
سورة سبأ
مكية إلا ﴿ويرى الذين أوتو العلم﴾ الآية وهي أربع أو خمس وخمسون آية، وثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفاً
﴿بسم الله﴾ أي: الذي من شمول قدرته إقامة الحساب ﴿الرحمن﴾ أي: الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب ﴿الرحيم﴾ أي: الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب.
ولما ختم السورة التي قبل هذه بصفتي المغفرة والرحمة بدأ هذه بقوله:
﴿الحمد لله﴾ أي: ذي الجلال والجمال على هذه النعمة.
فائدة: السور المفتتحة بالحمد خمس: سورتان في النصف الأول وهما الأنعام والكهف، وسورتان في النصف الأخير وهما هذه السورة وسورة الملائكة، والخامسة هي فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الثاني الأخير، والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين: نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء، فإن الله تعالى خلقنا أولاً برحمته، وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه يخلقنا مرة أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان: الإبداء، والإعادة، وفي كل حالة له تعالى نعمتان: نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء، فقال في النصف الأول: ﴿الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور﴾ (الأنعام: ١)
إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿هو الذي خلقكم من طين﴾ (الأنعام: ٢)
فأشار إلى الإيجاد الأول، وقال في السورة الثانية: ﴿الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً﴾ (الكهف: ١)
فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء، فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع تنقاد له الخلق لاتبع كل واحد هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والنفاق وقال ههنا: ﴿الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض﴾ ملكاً وخلقاً إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى ﴿وله﴾ أي: وحده ﴿الحمد﴾ أي: الإحاطة بالكمال ﴿في الآخرة﴾ أي: ظاهر الكل من يجمعه الحشر وله كل ما فيها لا يدعي
ويحتمل عوده لعيسى، أي: جاء لبني إسرائيل ﴿بالبينات﴾ أي: من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين ﴿قالوا﴾ أي: عند مجيئها من غير نظرة تأمل ﴿هذا﴾ أي: المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة ﴿سحر﴾ فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا ﴿مبين﴾ أي: في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول.
﴿ومن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم﴾ أي: أشد ظلماً ﴿ممن افترى﴾ أي: تعمد ﴿على الله﴾ أي: الملك الأعلى ﴿الكذب﴾ أي: بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه ﴿يدعى﴾ أي: من أي داع كان ﴿إلى الإسلام﴾ أي: الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى: ﴿والله﴾ أي: الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ﴿لا يهدي القوم﴾ أي: لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب ﴿الظالمين﴾ أي: الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
﴿يريدون﴾ أي: يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم ﴿ليطفئوا﴾ أي: لأجل أن يطفئوا ﴿نور الله﴾ أي: الملك الذي لا شئ يكافئه ﴿بأفواههم﴾ أي: بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.
تنبيه: الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه: أحدها: أنها تعليلية كما مر، ثانيها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك.
قال الماوردي: وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى هذه الآية»، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس: هو القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي: الإسلام، أي: يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك: إنه محمد ﷺ أي: يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج: حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل: إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق ﴿والله﴾ أي: الذي لا مدافع له لتمام عظمته ﴿متم نوره﴾ فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى: ﴿ولو كره﴾ أي: إتمامه له ﴿الكافرون﴾ أي: الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
﴿هو﴾ أي: الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير ﴿الذي أرسل رسوله﴾ أي: الحقيق