وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء خالصة، والباقون بالتحقيق.
﴿أم﴾ منقطعة أي: بل ﴿لهم نصيب﴾ أي: حظ ﴿من الملك﴾ ومعنى الهمزة إنكار أن يكون لهم شيء من الملك وجحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير لهم ولو كان لهم نصيب منه ﴿فإذاً﴾ أي: فيتسبب عن ذلك أنهم ﴿لا يؤتون الناس﴾ أي: واحداً منهم ﴿نقيراً﴾ ومرّ أنه النقرة في ظهر النواة، وهو مثل في القلة كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك إما ملك الدنيا وإما ملك الله كقوله تعالى: ﴿قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق﴾ وهذا مبالغة في شحهم فإنهم بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا أذلاء منقادين ويصح أن يكون معنى الهمزة في أم لإنكار أنهم قد أوتوا نصيباً من الملك وكانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كما تكون أحوال الملوك وإنهم لا يؤتون أحداً مما يملكون شيئاً.
﴿أم﴾ أي: بل ﴿يحسدون الناس﴾ أي: محمداً ﷺ الذي جمع فضائل الناس الأوّلين والآخرين ﴿على ما آتاهم الله من فضله﴾ أي: من النبوّة والكتاب والنصرة والإعزاز وكثرة النساء أي: يتمنون زواله عنه ويقولون: لو كان نبياً لاشتغل عن النساء ﴿فقد آتينا آل إبراهيم﴾ وهو جدّ النبيّ ﷺ ومن آل إبراهيم موسى وداود وسليمان ﴿الكتاب﴾ أي: ما أنزل إليهم ﴿والحكمة﴾ أي: النبوّة ﴿وآتيناهم ملكاً عظيماً﴾ فلا يبعد أن يؤتيه الله تعالى مثل ما آتاهم فكان لداود تسع وتسعون امرأة وكان لسليمان ألف وثلاثمائة حرّة وسبعمائة سريّة.
وقيل: المراد بالناس الناس جميعاً، وقيل: العرب. وحسدوهم لأنّ النبيّ الموعود منهم وقيل: النبيّ وأصحابه لأنّ من حسد على النبوّة فكأنما حسد الناس كلهم على كمالهم ورشدهم.
﴿فمنهم﴾ أي: اليهود ﴿من آمن به﴾ أي: بمحمد ﷺ كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿ومنهم من صدّ﴾ أي: أعرض ﴿عنه﴾ فلم يؤمن به ﴿وكفى بجهنم سعيراً﴾ أي: عذاباً لمن لم يؤمن وقوله تعالى:
﴿إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم﴾ أي: ندخلهم ﴿ناراً﴾ كالبيان والتقرير لذلك ﴿كلما نضجت﴾ أي: احترقت ﴿جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها﴾ بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى.
روي أنّ هذه الآية قرئت عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال عمر للقارىء: أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ: عندي تفسيرها: يبدله الله تعالى في ساعة مائة مرّة قال عمر: هكذا سمعت من رسول الله ﷺ وقال الحسن: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرّة كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا فيعودون كما كانوا.
فإن قيل: كيف تعذب جلود لم تكن في الدنيا ولم تعص؟ أجيب: بأن المعاد إنما هو الجلد الأوّل وإنما قال: جلوداً غيرها لتبدل صفتها كما تقول: صنعت من خاتمي خاتماً غيره فالخاتم الثاني هو الأوّل لا أنّ الصناعة والصفة تبدلت.
روي أنّ ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع.
وروي أنّ ضرسه أو نابه مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث ﴿ليذوقوا العذاب﴾ أي: ليقاسوا شدّته، وقيل: يخلق مكان ذلك الجلد جلد آخر والمعذب في الحقيقة على كل حال هي النفس العاصية القائمة بالبدن؛ لأنها المدركة دونه ﴿إنّ الله كان﴾ ولم يزل ﴿عزيزاً﴾ أي: لا يعجزه شيء ﴿حكيماً﴾ في خلقه يعاقب على وفق حكمته.
﴿والذين آمنوا﴾ أي: أقرّوا بالإيمان ﴿وعملوا الصالحات سندخلهم﴾ أي: بوعد لا خلف
فهر أخشاها عليك، فتلا رسول الله ﷺ هذه الآية فجاءت وما رأت رسول الله ﷺ وقالت: إني رأيت قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وإنّ صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس أنّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبيّ ﷺ ويسمعون حديثه فقال النضر يوماً: ما أرى ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه يتحرّكان بشيء. وقال أبو سفيان: إني لا أرى بعض ما يقوله إلا حقاً. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله ﷺ إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات وهي في سورة الإسراء: ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً﴾ (الإسراء، ٤٦)
. وفي سورة النحل ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم﴾ (النحل، ١٠٨)
وفي حم الجاثية ﴿أفرأيت من أتخذ إلهه هواه﴾ (الجاثية، ٢٣)
إلى آخر الآية، فكان الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين ﴿وإذا ذكرت ربك﴾ أي: المحسن إليك وإليهم ﴿في القرآن وحده﴾ أي: مع الإعراض عن آلهتهم كأن قلت وأنت تتلو القرآن لا إله إلا الله.
تنبيه: في نصب وحده وجهان أحدهما أنه منصوب على الحال وإن كان معرفة لفظاً في قوّة النكرة إذ هو في معنى منفرداً. والثاني: أنه منصوب على الظرف. ﴿ولّوا على أدبارهم نفوراً﴾ أي: هرباً من استماع التوحيد. تنبيه: في نفوراً وجهان أحدهما مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنّ التولي والنفور بمعنى والثاني أنه حال من فاعل ولوا وهو حينئذٍ جمع نافر كقاعد وقعود وشاهد وشهود والضمير في ولوا يعود إلى الكفار وقيل يعود إلى الشيطان وإن لم يجر لهم ذكر. قال المفسرون: إنّ القوم كانوا عند استماع القرآن على أقسام منهم من كان يلهو عند استماعه. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه ويساره إخوان من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، ومنهم من كان إذا سمع من القرآن ما فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين لا يفهمون منه شيئاً ومنهم من إذا سمع آيات فيها ذكر الله تعالى وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس. ولما كانوا ربما ادّعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه أتبعه تعالى بقوله تعالى:
﴿نحن أعلم﴾ أي: من كل عالم ﴿بما يستمعون﴾ أي: يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع ﴿به﴾ من الآذان والقلوب أو بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن ﴿إذ يستمعون﴾ أي: يصغون بجهدهم ﴿إليك﴾ أي: إلى قراءتك ﴿وإذ﴾ أي: حين ﴿هم﴾ ذو ﴿نجوى﴾ أي: يتناجون بأن يرفع كل منهم بصره إلى صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع ثم ذكر تعالى ظرف النجوى بقوله تعالى: ﴿إذ﴾ وهو بدل من إذ قبله ﴿يقول الظالمون﴾ وقولهم ﴿إن﴾ أي: ما ﴿تتبعون إلا رجلاً مسحوراً﴾ أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله. وروي أنّ رسول الله ﷺ أمر علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك ودخل عليهم رسول الله ﷺ وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال:
قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم» فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبيّ ﷺ القرآن والدعوى إلى الله تعالى يقولون: ﴿إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً﴾.
في بابه كما يقال: عجب عجيب أو هو واقع في الريب كما يقال: شعر شاعر أي: ذو شعر فهو اسم فاعل من أراب أي: أتى بالريب أو دخل فيه أي: أوقعته في الريب، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز قال الزمخشري: إلا أن بينهما فرقاً وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعني، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول شعر شاعر انتهى، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً» حديث موضوع.
سورة فاطر
مكية هي ست وأربعون آية، ومائة وسبعةوتسعون كلمة، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفاً
وهي ختام السور المفتتحة باسم الحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة وهي: الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بإنهاء القدرة وأحكمها المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محله.
﴿بسم الله﴾ الذي أحاطت دائرة قدرته بالممكنات ﴿الرحمن﴾ الذي عم الخلق بعموم الرحمة ﴿الرحيم﴾ الذي شرف أهل الكرامة بدوام المراقبة.
ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام كما يكون بالإعطاء والإنعام قال تعالى ما هو نتيجة ذلك:
﴿الحمد﴾ أي: الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً ﴿لله﴾ أي: وحده.
ولما كان الإيجاد من العدم أدل دليل على ذلك قال تعالى دالاً على استحقاقه للمحامد ﴿فاطر السموات والأرض﴾ أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق قاله ابن عباس، أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض، وعن مجاهد عن ابن عباس ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي: ابتدأتها.
تنبيه: إن جعلت إضافة فاطر محضة كان نعتاً، وإن جعلتها غير محضة كان بدلاً وهو قليل من حيث إنه مشتق.
ولما كانت الملائكة عليهم السلام مثل الخافقين في أن كلا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر أخبر عنهم بعدما أخبر عما طريقه المشاهدة بقوله تعالى: ﴿جاعل الملائكة رسلاً﴾ أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون رسالته بالوحي والإلهام والرؤية الصادقة، أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه ﴿أولي﴾ أي: أصحاب ﴿أجنحة﴾ يهيئهم لما يراد منهم، ثم وصفها بقوله تعالى: ﴿مثنى﴾ أي: جناحين لكل واحد من صنف منهم ﴿وثلاث﴾ أي: ثلاثة ثلاثة لصنف آخر منهم ﴿ورباع﴾ أي: أربعة أربعة لصنف آخر منهم، فهم متفاوتون بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون ويسرعون بها نحو ما وكلهم الله تعالى عليه فيتصرفون فيه على ما أمرهم به، وإنما لم تصرف هذه الصفات لتكرر العدل فيها، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ
وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة فنزلت. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر «طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة فأمره النبي ﷺ بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء». وهو قوله تعالى: ﴿فطلقوهن لعدتهن﴾ أي: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان فنزلت الآية فيهم. وروى الدراقطني عن ابن عباس أنه قال: «الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان، ووجهان حرامان.
فأما الحلال فأن يطلقها طاهراً عن غير جماع، وأن يطلقها حاملاً مستبيناً حملها.
وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، أو أن يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا».
تنبيه: الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي ولا ولا، فطلاق موطوأة ولو في دبر تعتد بإقراء سني إن ابتدأتها الإقراء عقب الطلاق، ولم يطأها في طهر طلقها فيه أو علق طلاقها بمضي بعضه، ولا وطئها في نحو حيض قبله، ولا في حيض طلق مع آخره أو علق بآخره وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم فيمن ذكرت، وإلا فبدعي وإن سألته طلاقاً بلا عوض وطلاق غير الموطوأة المذكورة بأن لم توطأ أو كانت صغيرة أو آيسة أو حاملاً منه وخلع زوجته في زمن حيض بعوض لا سني ولا بدعي، والبدعي حرام للنهي عنه.
وقسم جماعة الطلاق إلى واجب كطلاق المولى، أي: واجب مخير إن لم يكن عذر، ومعين إن كان عذر شرعي كالإحرام، ومندوب كطلاق غير مستقيمة الحال كسيئة الخلق، ومكروه كمستقيمة الحال، وحرام كطلاق البدعة. وأشار الإمام إلى المباح بطلاق من لا يهواها، ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها، وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وعن علي عن النبي ﷺ قال: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش» وعن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ «يا معاذ ماخلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق» وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ﷺ «ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق» واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس، وبه قال حماد الكوفي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتق. وقال قتادة: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً صرح بصيغة الأمر فقال تعالى: ﴿وأحصوا﴾ أي: اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس ﴿العدة﴾ ليعرف زمان الرجعة والنفقة والسكنى، وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة ﴿واتقوا﴾ أي: في ذلك ﴿الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر ﴿ربكم﴾ أي: لإحسانه في تربيتكم في حملكم علي الحنيفية السمحة ورفع جميع الآصار عنكم ﴿لا تخرجوهن﴾ أي: أيها الرجال