أي: انقاد وأخلص عمله ﴿﴾ فلا حركة ولا سكون إلا فيما يرضاه، وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشرية ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه ﴿محسن﴾ أي: مؤمن مراقب آت بالحسنات تارك للسيآت، لأنه يعبد الله كأنه يراه، وقد اشتملت هذه الكلمات العشر على الدين كله أصلاً وفرعاً مع الترغيب بالمدح الكامل لمتبعه وإفهام الذمّ الكامل لغيره ﴿واتبع ملة إبراهيم﴾ أي: الموافقة لملة الإسلام وقوله تعالى: ﴿حنيفاً﴾ حال أي: مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيّم ﴿واتخذ إبراهيم خليلاً﴾ أي: صفياً خالص المحبة له، وإنما أعاد ذكره، ولم يضمره تفخيماً له، وتنصيصاً على أنه الممدوح، والخلة من الخلال فإنه ودّ تخلل النفس وخالطها، قال الزجاج: الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة الصداقة فسمي خليلاً؛ لأن الله تعالى أحبه واصطفاه.
روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فأصاب الناس سنة فحشروا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم يريده لنفسه لفعلت ولكن يريده للأضياف وقد أصباننا ما أصاب الناس من الشدّة، فرجع غلمانه فمرّوا ببطحاء أي: بأرض ذات حصى فقالوا: لو أنا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحيي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة فملؤا تلك الغرائر ثم أتوا إبراهيم فلما أخبروه بذلك وسارة نائمة ساءه الخبر فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا: بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حوّاري أي: وهو بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء، الدقيق الذي نخل مرّة بعد أخرى، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز فقال: من أين هذا لكم؟ فقالت: من خليلك المصري فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل، فسماه الله خليلاً.
﴿وما في السموات وما في الأرض﴾ خلقاً وملكاً يفعل فيهما ما يشاء ﴿وكان الله بكل شيء محيطاً﴾ علماً وقدرة أي: ولم يزل متصفاً بذلك فمهما أراد كان في وعد وعيد للمطيع والعاصي لا يخفى عليه أحد منهم ولا يعجزه شيء.
﴿ويستفتونك﴾ أي: يطلبون منك الفتوى ﴿في﴾ شأن ﴿النساء﴾ أي: في شأن اليتامى ﴿قل الله يفتيكم﴾ أي: يبين لكم حكمه ﴿فيهن﴾ والإفتاء تبيين المبهم ﴿و﴾ يفتيكم أيضاً في ﴿ما يتلى عليكم في الكتاب﴾ أي: القرآن من آية الميراث ﴿في يتامى النساء﴾ أي: في شأن اليتامى ﴿اللاتي لاتؤتونهن ما كتب﴾ أي: فرض ﴿لهن﴾ أي: من الميراث ﴿وترغبون﴾ أيها الأولياء ﴿أن﴾ أي: في أن أو عن أن ﴿تنكحوهن﴾ لجمالهن أو دمامتهن، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سنة صداقها وإن كانت مرغوباً عنها في قلة المال والجمال تركها.
وفي رواية: هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوّجها لدمامتها، ويكره أن يزوّجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله تعالى عن ذلك ﴿و﴾ يفتيكم في ﴿المستضعفين﴾ أي: الصغار ﴿من الولدان﴾ أي: أن تعطوهم حقوقهم؛ لأن العرب كانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء
له دويّ تحت العرش كدويّ النحل فيقول الرب ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي. وفي رواية لابن مسعود أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأنّ هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا وتعلمه أبناؤنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم؟ فقال: يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب وقوله تعالى: ﴿إن فضله كان﴾ أي: ولم يزل ﴿عليك كبيراً﴾ فيه قولان أحدهما المراد منه أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. ثانيهما أنّ المراد أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود، وقد أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك.
ونزل حين قال الكفار للنبيّ ﷺ لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. ﴿قل﴾ أي: لهؤلاء البعداء ﴿لئن اجتمعت الأنس﴾ الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم ﴿والجنّ﴾ الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط ﴿على أن يأتوا بمثل هذا القرآن﴾ في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى ﴿لا يأتون بمثله﴾ أي: لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.
تنبيه: في قوله تعالى: لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني: أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله:
وإن أتاه خليل، أي: فقير ـ يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأنّ الشرط وقع ماضياً وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس: ﴿ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾ أي: معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه. تنبيه: قد تقدّم في سورة البقرة أنّ الله تعالى قال: ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣)
وقدّمنا الكلام على ذلك وفي وجه كون القرآن معجزاً قولان أحدهما: أنه معجز في نفسه. والثاني: أنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً والقول الأوّل أظهر.
﴿ولقد صرّفنا﴾ أي: بينا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان ﴿للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ أي: من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه متوقعاً في الأنفس. وقيل معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها. وقيل صفة لمحذوف، أي: مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا ﴿فأبى أكثر الناس﴾ وهم من هم في صورة الناس ككفار قريش وقد سلبوا معانيهم ﴿إلا كفوراً﴾ أي: جحوداً. فإن قيل: كيف جاز ﴿فأبى أكثر الناس إلا كفوراً﴾ ولم يجز ضربت إلا زيداً؟ أجيب: بأنّ أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفوراً.
ولما تبين بالدليل إعجاز القرآن على وفق دعوى محمد
جميع الحيوانات، وبأن خلقة الحيوانات نعمة والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم والدواب أقرب النعم؛ لأن المفرد أولاً ثم المركب، والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً، والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً، والحيوان إما إنسان أو غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
فإن قيل: كيف يقال لما علته الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالمتضاد؟ أجيب: بأن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر، وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر؛ لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
﴿ولكن﴾ لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش بل يحلم عنهم فهو ﴿يؤخرهم﴾ أي: في الحياة الدنيا ثم في البرزخ ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي: سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم يبعثهم من قبورهم وهو تعالى لا يبدل القول لديه لما له من صفات الكمال ﴿فإذا جاء أجلهم﴾ أي: الفناء الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله، أو الإيجاد الإبقائي بعث كلاً منهم فجازاه بعمله ﴿فإن الله﴾ أي: الذي له الصفات العليا ﴿كان﴾ ولم يزل ﴿بعباده﴾ الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد واحد منهم بجميع ذواتهم وأحوالهم ﴿بصيراً﴾ أي: بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب ومن يستحق الثواب، قال ابن عباس: يريد أهل طاعته وأهل معصيته، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت» حديث موضوع.
سورة يس
مكية وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وتسعةوعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف
وتسمى أيضاً: القلب والدافعة والقاضية والمعممة تعم صاحبها بخير الدارين، وتدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة، والبيضاوي ذكر هذه التسمية عن النبي ﷺ قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره ولكن المثبت مقدم على النافي.
﴿بسم الله﴾ أي: الذي جل ملكه على أن يحاط بمقدراه ﴿الرحمن﴾ الذي جعل إنذار يوم الجمع رحمة عامة ﴿الرحيم﴾ الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه وقوله تعالى:
﴿يس﴾ كـ[ألم] في المعنى والإعراب
وقال ابن عباس: يس قسم، وروي عن شعبة أن معناه يا إنسان بلغة طيء على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل: م الله في أيمن الله، وقال أكثر المفسرين: يعني محمداً ﷺ قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال أبو العالية: يا رجل وقال أبو بكر الوراق: يا سيد البشر.
قال ابن عادل في ذكر هذه الحروف أوائل السور: أمور تدل على أنها غير خالية من الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها والذي يدل على أنها فيها حكمة هو أن الله عز وجل ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً نصف ثمانية وعشرين حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا: الهمزة ألف متحركة، ثم إن الله تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال، والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرة في الوسط من الراء إلى الغين، وذكر من القسم الأول حرفين
دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال ﴿فلم﴾ أي: فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم ﴿يغنيا عنهما﴾، أي: المرأتين بحق النكاح ﴿من الله﴾، أي: من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره ﴿شيئاً﴾ أي: من إغناء لأجل خيانتهما ﴿وقيل﴾ أي: للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مردّ له ﴿ادخلا النار﴾، أي: قيل لهما ذلك عند موتهما أو يوم القيامة ﴿مع الداخلين﴾، أي: سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من عذاب الله تعالى وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أعلى وجه وأشده وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة وقيل: أن كفار مكة استهزؤا وقالوا: إن محمداً يشفع لنا فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا ينفع نوح امرأته ولا لوط امرأته مع قربهما لهما لكفرهما.
ثم شرع تعالى في ضرب المثل الثاني: فقال تعالى:
﴿وضرب الله﴾، أي: الملك الأعلى الذي له صفات الكمال ﴿مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون﴾ واسمها آسية وهي بنت مزاحم آمنت وعملت صالحاً فلم تضرّها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل، ولا نفعه إيمانها، كل امرئ بما كسب رهين وأثابها ربها تعالى أن جعلها في الآخرة زوجة خير خلقه محمد ﷺ في دار كرامته بصبرها على عبادة الله تعالى وهي في حبالة عدوّه وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته له لأنه من أعدى أعدائه وقوله تعالى: ﴿إذ قالت﴾ ظرف للمثل المحذوف، أي: مثلهم مثلها حين قالت ﴿رب﴾، أي: أيها المحسن إلي بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار ﴿ابن لي عندك بيتاً﴾ وبينت مرادها بالعندية فقالت: ﴿في الجنة﴾ أي: دار المقربين وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة أكمل خلقه محمد ﷺ فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل ﴿ونجني من فرعون﴾ أي: فلا أكون عنده ﴿وعمله﴾ فلا تسلطه علي بما يضرني عندك في الآخرة فلا أعمل بشيء من عمله وهو شركه، وقال ابن عباس: جماعه ﴿ونجني﴾ أعادت العامل تأكيداً ﴿من القوم الظالمين﴾ أي: الناس الأقوياء العريقين الذين يضعون أعمالهم في غير موضعها، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب، وهو كليم الله موسى عليه السلام كما يقال:
*صديق صديقي داخل في صداقتي
وذلك أن موسى عليه السلام لما غلب السحرة آمنت به فلما تبين لفرعون إيمانها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفي القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت: ﴿رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة﴾ فأبصرته من مرمرة بيضاء فانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً، وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله تعالى امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.
وقوله تعالى: ﴿ومريم ابنت عمران﴾ عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل ﴿التي أحصنت فرجها﴾ أي: عفت عن السوء وجميع مقدماته، كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على حالها إلى الممات فزوجها الله تعالى في الجنة جزاء لها بخير خلقه محمد ﷺ وقال بعض المفسرين: أراد بالفرج هنا الجيب لقوله تعالى: ﴿فنفخنا﴾،