عطف على محذوف سدّ مسدّ الجواب كأنه قيل: جواباً لقولهم: ﴿أئن لنا لأجراً﴾ إنّ لكم أجراً وإنكم لمن المقربين أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقرّبين عندي، قال الكلبيّ: تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج من عندي الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى وتدل أيضاً على أنّ كل السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب.
﴿قالوا﴾ أي: السحرة ﴿يا موسى إمّا أن تلقى﴾ أي: عصاك ﴿وإمّا أن نكون نحن الملقين﴾ أي: عصينا وحبالنا فراعوا مع موسى عليه السلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء فعوضهم الله تعالى حيث تأدّبوا مع نبيه عليه السلام أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أوّلاً وأظهروا ما يدل على رغبتهم.
﴿قال﴾ لهم موسى ﴿اتقوا﴾ أنتم فقدّمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قيل: كيف جاز لنبيّ الله تعالى موسى عليه السلام أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر حرام أو كفر؟ أجيب: عن ذلك بأجوبة: أحدها: إنّ معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا، الثاني: أنّ القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصيّ وعلم موسى عليه السلام أنه لا بدّ وأن يفعلوا ذلك ووقع التحير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده الله تعالى من التأييد والتقوية وأنّ المعجزة لا يغلبها سحر أبداً، الثالث: أنه عليه السلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولاً ﴿لما ألقوا﴾ حبالهم وعصيهم ﴿سحروا﴾ أي: صرفوا ﴿أعين الناس﴾ عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي هو فعل الله تعالى وذلك لأنّ السحر ليس فيه قلب الأعيان وإنما فيه صرف أعين الناس عن إدراك ذلك الشيء بسبب التمويهات والمعجزة قلب ذلك الشيء حقيقة كقلب عصا موسى عليه السلام فإذا هي حية تسعى ﴿واسترهبوهم﴾ أي: أرهبوهم والسين زائدة قاله المبرد، وقال الزجاج: استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب ﴿وجاؤوا﴾ أي: السحرة ﴿بسحر عظيم﴾.
روي أنّ السحرة قالوا: قد عملنا سحراً لا تطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وذلك أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي حيات تسعى كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصى زئبقاً ليضيء وألقوها على الأرض فلما أثر حرّ الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات تتحرّك وتلتوي باختيارها،
أي: غير الله تعالى ﴿لفسدتا﴾ أي: لخرجتا عن نظامهما المشاهد لوجود التمانع بينهم على وفق العادة عند تعدّد الحاكم، وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق كان والله أعز عليّ من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، وهذا ظاهر.
وأما طريقة التمانع فقال المتكلمون: القول بوجود إلهين مفضٍ إلى المحال لأنّا لو فرضنا وجود إلهين، فلا بدّ أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك زيد وتسكينه، ولو فرضنا أنّ أحدهما أراد تحريكه والآخر أراد تسكينه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدّين، أو لا يقع واحد منهما، وهو محال؛ لأنّ المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وذلك أيضاً محال؛ لأنّ الذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الإله محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات، وإذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أنّ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل على أنّ وحدانية الله تعالى والدلائل السمعية على الوحدانية كثيرة في القرآن، ولما أفاد هذا الدليل أنه لا يجوز أن يكون المدبر للسموات والأرض إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلا الله تعالى قال: ﴿فسبحان الله﴾ أي: فتسبب عن ذلك تنزه المتصف بصفات الكمال ﴿ربّ﴾ أي: خالق ﴿العرش﴾ أي: الكرسي المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير، ومنشأ التقادير ﴿عما يصفون﴾ أي: الكفار الله به من الشريك له وغيره، ثم بيّن تعالى ذلك بقوله عز وجل:
﴿لا يسأل﴾ أي: من سائل ما ﴿عما يفعل﴾ لعظمته وقوّة سلطانه، وإذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيباً وإجلالاً مع جواز الخطأ والزلل، وأنواع الفساد عليهم كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بدواعي الحكمة، ولا يجوز عليه تعالى الخطأ ﴿وهم يسألون﴾ لأنهم مملوكون مستعبدون خطاؤون، فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه، ولما قام الدليل ووضح السبيل واضمحلّ كل قال وقيل، وانمحقت الأباطيل كرّر تعالى:
﴿أم اتخذوا من دونه آلهة﴾ كرّره استفظاعاً لشأنهم واستعظاماً لكفرهم، وإظهاراً لجهلهم، ولما كان جوابهم: اتخذنا ولا نرجع، أمر الله تعالى نبيه بجوابهم فقال: ﴿قل هاتوا برهانكم﴾ على ما ادّعيتموه من عقل أو نقل كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل، ولما كان تعالى لا يؤاخذ بمخالفة العقل ما لم ينضمّ إليه دليل النقل أتبعه قوله مشيراً إلى ما بعث الله تعالى به الرسل من الكتب ﴿هذا ذكر﴾ أي: موعظة وشرف ﴿من معي﴾ ممن آمن بي وهو القرآن الذي عجزتم عن معارضته ﴿وذكر﴾ أي: وهذا ذكر ﴿من قبلي﴾ من الأمم الماضية وهو التوراة والإنجيل، وغيرهما من الكتب السماوية، فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك، ولما كانوا لا يجدون شبهة لهم فضلاً عن حجة ذمّهم الله تعالى على جهلهم بمواضع الحق
والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وأمال الكسائي الهاء في الوقف ﴿وخسر﴾ أي: هلك أي: تحقق وتبين أنه خسر ﴿هنالك الكافرون﴾ أي: العريقون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبين الكفر.
تنبيه: هنالك في الأصل اسم مكان قيل: استعير هنا للزمان ولا حاجة له فالمكانية فيه ظاهرة، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي ﷺ «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له» حديث موضوع. وعن ابن سيرين رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن: لمن أنتن فقلن لمن يقرأ آل حم.
سورة حم فصلت
مكية وتسمى فصلت وهي أربع وخمسون آية وسبعمائةوتسعة وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وثلاثمئة وخمسون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له أوصاف الكمال ﴿الرحمن﴾ الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ﴿الرحيم﴾ الذي فصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان، وتقدم الكلام على قوله تعالى:
﴿حم﴾ ثم إن جعلتها اسماً للسورة كانت في موضع الابتداء وخبره.
﴿تنزيل من الرحمن الرحيم﴾ وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تنزيل خبر المبتدأ محذوف أي: هذا تنزيل وقال الأخفش: تنزيل رفع بالابتداء وخبره.
﴿كتاب﴾ فصلت، وجرى على ذلك الجلال المحلي ﴿فصلت﴾ أي: بينت ﴿آياته﴾ بالأحكام والقصص والمواعظ بياناً شافياً في اللفظ والمعنى حال كونه ﴿قرآناً﴾ أي: جامعاً مع التفصيل وهو مع جمع اللفظ وضبطه منثور اللؤلؤ منتشر المعاني لا إلى حد ولا نهاية عد بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: ﴿عربياً﴾ لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً، وفي ذلك امتنان لسهولة قراءته وفهمه، وقوله تعالى: ﴿لقوم يعملون﴾ أي: العربية أو لأهل العلم وهو النظر وهو متعلق بفصلت أي: فصلت لهؤلاء وبينت لهم لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس، أو بمحذوف صفة لقرآناً أي: كائناً لهؤلاء خاصة لما تقدم من المعنى.
تنبيه: حكم الله تعالى على هذه السورة بأشياء أولها: كونها تنزيلاً والمراد المنزل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور كقولك هذا بناء الأمير أي: مبنيه وهذا الدرهم ضرب السلطان أي: مضروبه ومعنى كونها منزلة أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ وأمر جبريل عليه السلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على محمد ﷺ ويؤديها إليه، فلما حصل تفهم هذه الكلمات بواسطة جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلاً.
وثانيها: كون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لابد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة، فكونه تعالى رحماناً رحيماً صفتان دالتان على كمال الرحمة والتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة، والأمر كذلك لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى
العباد. حتى تكون قيد ميل أو اثنين ـ قال سليم: لا أدري أي: الميلين يعني: مسافة الأرض أو الميل الذي تكتحل به العين ـ قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه على حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول الله ﷺ وهو يشير بيده إلى فيه يقول: ألجمه إلجاماً». وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجوه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان أنّ أعرابياً قال له: سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أنّ المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم، الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن، وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظنّ ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط والعمل على السوية، والعدل في كل أخذ وإعطاء بل في كل قول وعمل.
وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى: ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده. وعن بعض المفسرين أنّ لفظ التطفيف يتناول التطفيف في الوزن والكيل. وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف، والمعاشرة والصحبة في هذه المادّة، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه.
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا، وههنا تم الكلام. وقال الحسن: كلا ابتداء متصل بما بعده على معنى حقاً، وجرى الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأوّل.
﴿إنّ كتاب الفجار﴾ أي: كتب أعمال الكفار وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف. واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى: ﴿لفي سجين﴾ فقيل: هو كتاب جامع، وهو ديوان الشر دوّن الله تعالى فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس، وقيل: هو مكان تحت الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنوده. وقال عبد الله بن عمر: سجين في الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار. ﴿ {
وعن البراء قال: قال رسول الله ﷺ «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش». وقال الكلبي: هو صخرة تحت الأرض السابعة خضراء خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس. وعن كعب الأحبار: أنّ روح الفاجر يعني: الكافر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم هبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس وذلك استهانة بها، ويشهدها الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. وقال عكرمة: لفي سجين، أي: في خسار وضلال.
{وما أدراك﴾ أي: جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك.
﴿ما سجين﴾ وقال الزجاج: أي: ليس لك ذلك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
وقوله تعالى: ﴿كتاب مرقوم﴾ ليس تفسيراً لسجين بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله تعالى: ﴿إن كتاب الفجار﴾ أي: هو كتاب مرقوم، أي: مسطور