الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الصانع الحكيم وتصديق موسى الكليم، ثم إنهم اتخذوا العجل وقالوا: ﴿لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة﴾ (البقرة، ٥٥) فهم بمعزل من الفطنة والذكاء وسلامة النفس وحسن الاتباع عن أمّة محمد ﷺ مع أن ما تواتر من معجزاته أمور نظرية مثل القرآن والتحدّي به والفضائل المجتمعة فيه الشاهدة على نبوّة محمد صلى الله عليه
وسلم دقيقة
يدركها الأذكياء.
﴿وإذ وعدنا موسى﴾ بغير ألف بين الواو والعين، كما قرأ به أبو عمرو، والباقون بألف بين الواو والعين لأنه تعالى وعد موسى الوحي ووعد موسى ربه المجيء للميقات إلى الطور، وقيل: هذا من المفاعلة التي تكون من الواحد كعاقبت اللص وطارقت النعل. وأمال حمزة ألف موسى محضة، وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين ﴿أربعين ليلة﴾ أن يعطيه عند انقضائها التوراة ليتعلموا بها وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور، وقيل: لأنّ الظلمة أقدم من الضوء وخلق الله تعالى الليل قبل النهار قال الله تعالى: ﴿وآية لهم الليل نسلخ منه النهار﴾ (يس، ٣٧) وقول البيضاوي: إنّ ذلك الوعد لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون تبع في ذلك «الكشاف» ولم يعرف ذلك لغيرهما وإنما كانوا بالشام لأن إتيان موسى للمقيات كان بطور سينا وهو بالشام لا بمصر وقد قال البهاء بن عقيل في «تفسيره» : لم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرّخين بأنهم دخلوا مصر بعد خروجهم منها.
فإن قيل: قوله تعالى: ﴿فأخرجناهم من جنات﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وأورثناها بني إسرائيل﴾ يقتضي أنهم عادوا إليها. أجيب: بأن المعنى أن الله تعالى أورثهم وملكهم إياها ولم يردّهم إليها وجعل مساكنهم الشام. ﴿ثم اتخذتم﴾ قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم اتخذتم بإظهار الذال قبل التاء، والباقون بإدغام الذال في التاء. ﴿العجل﴾ الذي صاغه لكم السامريّ إلهاً ومعبوداً ﴿من بعده﴾ أي: بعد ذهابه إلى ميقاتنا، وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا من عدوّهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتمون إليها فوعد الله تعالى موسى أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه: إني ذاهب لميقات ربي آتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون واستخلف أخاه هارون فلما أتاه الوعد جاءه جبريل على فرس يقال له: فرس الحياة، لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه، فلما رآه السامريّ وكان رجلاً صائغاً من قبيلة يقال لها: سامرة، ورأى موضع قدم الفرس يخضر من ذلك وكان منافقاً يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر ألقى في روعه أنه إذا ألقى في شيء غيره وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعمل عرس لهم فأهلك الله تعالى فرعون وقومه فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل قال السديّ: فأمرهم هارون أن يلقوها في حفرة حتى يرجع موسى ففعلوا فلما اجتمعت الحلي صاغها السامريّ عجلاً من ذهب في ثلاثة أيام مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون ثم ألقى فيه القبضة التي أخذها من تراب حافر فرس جبريل فصار يخور ويمشي فقال السامريّ: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أي: فتركه ههنا، وخرج يطلبه وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة، وقيل: كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة قال تعالى:
وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله رست. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنصب الميم من جرت ورست، أي: جريها ورسوها وهما مصدران، والباقون بضم الميم من أجريت وأرسيت أي بسم الله إجراؤها وارساؤها وأمال الألف بعد الراء أبو عمرو وحفص وحمزة والكسائي محضة وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وذكروا في عامل الإعراب في بسم الله وجوهاً: الأول: اركبوا بسم الله، الثاني: ابدؤوا بسم الله، الثالث: بسم الله إجراؤها ﴿إنّ ربي لغفور رحيم﴾ أي: لولا مغفرته لفرطائكم ورحمته إياكم لما نجاكم. وقوله تعالى:
﴿وهي تجري بهم﴾ متعلق بمحذوف دلّ عليه اركبوا، أي: فركبوا مسمين الله تعالى وهي تجري وهم فيها ﴿في موج﴾ وهو ما ارتفع من الماء إذا اشتدّت عليه الريح ﴿كالجبال﴾ في عظمه وارتفاعه على الماء، قال العلماء: بالسير أرسل الله تعالى المطر أربعين يوماً وليلة. وخرج الماء من الأرض فذلك قوله تعالى: ﴿ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قدر﴾ (القمر، ١١، ١٢) فصار الماء نصفين نصف من السماء ونصف من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء، وروي أنه لما كثر الماء في السكك خافت امرأة على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبيّ بيديها حتى ذهب بهما الماء، فلو رحم الله تعالى منهم أحداً لرحم هذه المرأة. وما قيل من أنّ الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كما تسبح السمكة فليس بثابت. قال البيضاويّ: والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعاً. فإن صح، أي: أنه طبق ما بين السماء والأرض فلعل ذلك أي: ما ذكر من علو الموج قبل التطبيق ﴿ونادى نوح ابنه﴾ كنعان وكان كافراً كما مرّ، وقيل: اسمه يام ﴿وكان في معزل﴾ عزل فيه نفسه إمّا عن أبيه أو دينه ولم يركب معه، وإمّا عن السفينة، وإمّا عن الكفار كأنه انفرد عنهم. وظنّ نوح عليه السلام أنّ ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم ولذلك ناداه بقوله ﴿يا بني اركب معنا﴾ في السفينة. وقرأ عاصم بفتح الياء اقتصاراً على الفتح من الألف المبدلة ياء الإضافة في قولك يا بنيا. والباقون بالكسر في الوصل ليدل على ياء الإضافة المحذوفة كما قال الشاعر:
*يا ابنة عم لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف ﴿ولا تكن مع الكافرين﴾ أي: في دين ولا مكان فتهلك. ولما قال له ذلك.
﴿قال سآوي﴾ أي: ألتجئ وأصير ﴿إلى جبل يعصمني﴾ أي: يمنعني ﴿من الماء قال﴾ له نوح عليه السلام: ﴿لا عاصم﴾ أي: لا مانع ﴿اليوم من أمر الله﴾ أي: من عذابه وقوله ﴿إلا من رحم﴾ استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله تعالى: ﴿ما لهم به من علم إلا اتباع الظنّ﴾ (النساء، ١٥٧) وقيل: ﴿إلا من رحم﴾ أي: إلا الراحم وهو الله تعالى، وقيل: إلا مكان من رحمه الله تعالى فإنه مانع من ذلك وهو السفينة. ﴿وحال بينهما﴾ أي: بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل ﴿الموج﴾ المذكور في قوله موج كالجبال ﴿فكان﴾ ابنه ﴿من المغرقين﴾ أي: فصار من المهلكين بالماء.
﴿و﴾ لما تناهى الطوفان وأغرق قوم نوح ﴿قيل﴾ أي: قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى
الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت: تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية
بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صباً، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدراً، فميز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى:
﴿فلما جاء﴾ أي: الرسول الذي بعثته، والمراد به الجنس، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث ﴿سليمان﴾ ورفع إليه ذلك ﴿قال﴾ أي: سليمان عليه السلام للرّسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه ﴿أتمدّونني﴾ أي: أنت ومن معك ومن أرسلك ﴿بمال﴾ وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى، وقرأ نافع وأبو عمرو: بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير: بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلاً ووقفاً، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغاراً لما معهم ﴿فما آتاني الله﴾ أي: الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص: بفتح الياء في الوصل، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضاً إثباتها وقفاً، والباقون بحذف الياء وقفاً ووصلاً، وأمالها حمزة والكسائي محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين ﴿خير﴾ أي: أفضل ﴿مما آتاكم﴾ أي: من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه ﴿بل أنتم﴾ أي: بجهلكم بالدين ﴿بهديتكم﴾ أي: بإهداء بعضكم إلى بعض ﴿تفرحون﴾ وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحداً، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة، ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد.
﴿ارجع﴾ أي: بهديتهم وجمع في قوله ﴿إليهم﴾ إكراماً لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها ﴿فلنأتينهم بجنود لا قبل﴾ أي: لا طاقة ﴿لهم بها﴾ أي: بمقابلتها ﴿ولنخرجنهم منها﴾ أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ ﴿أذلة وهم صاغرون﴾ أي: ذليلون لا يملكون شيئاً من المنعة.
فإن قيل: فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلا بدّ أن يقع؟ أجيب: بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى، أي: إن لم يأتونى مسلمين، قال وهب وغيره من أهل الكتب، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة
عليه قوله تعالى ﴿أشدّاء﴾ متعلق على الكفار الخ أي: جعلهم بهذه الصفات ليغيظ. ثالثها: أنه متعلق بقوله تعالى: ﴿وعد الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿الذين آمنوا﴾ لأنّ الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا وما أعدّ الله لهم في الآخرة غاظهم ذلك. وقوله تعالى: ﴿وعملوا الصالحات﴾ فيه إشارة إلى تصديق دعواهم ومن في قوله تعالى: ﴿منهم﴾ للبيان لا للتبعيض لأنهم كلهم كذلك فهي كقوله تعالى: ﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ (الحج: ٣٠)
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عما يجب لله تعالى من العبادة. أشار إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿مغفرة﴾ أي: لما يقع منهم من الذنوب والهفوات ﴿وأجراً عظيماً﴾ بعد ذلك الستر وهو الجنة. وهما أيضاً لمن بعدهم ممن يأتي.
فائدة قد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلوّ نصرهم رضى الله عنهم وحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه.
قال: وهذا آخر القسم الأوّل من القرآن، وهو المطوّل وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ ﷺ وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً. كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما: نصره له ﷺ بالحال على من قصده بالضر باطناً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله ﷺ فتح مكة» حديث موضوع. وقال ابن عادل: روى أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ في التطوّع حفظ في ذلك العام ولم أره لغيره ا. هـ.
سورة الحجرات
مدنية وهي: ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمةوألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الجبار المتكبر الذي أعز رسوله ﷺ ﴿الرحمن﴾ الذي من عموم رحمته الآداب للتوصل إلى حسن المآب ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولي الألباب بالإقبال على ما يوجب لهم دار الثواب.
ولما نوّه سبحانه في القتال بذكر النبيّ ﷺ وصرّح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به وملأ سورة الفتح بتعظيمه وختمها باسمه ومدح أتباعه لأجله افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل فقال تعالى:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي: أقرّوا بالإيمان ﴿لا تقدّموا﴾ من قدم بمعنى تقدّم أي لا تتقدّموا وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه، فيذهب الوهم كل مذهب ويجوز أن يكون حذفه من غير قصد إليه أصلاً بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل ﴿بين يدي الله﴾ أي: الملك الأعظم الذي لا يطاق انتقامه ﴿ورسوله﴾ أي: الذي عظمته ظاهرة جدّاً لا نهاية له، لأنّ عظمته من عظمته، ولذلك قرن اسمه باسمه واختلف في سبب نزول ذلك. فقال الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ ﷺ وذلك «أن أناساً ذبحوا قبله ﷺ فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وقال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من


الصفحة التالية
Icon