جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ثم إنّ الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسمعيل وإسحق ببناء بيت يذكر فيه اسمه تعالى فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه، قال ابن عباس فبعث الله له سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت به مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل: أرسل الله تعالى جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى: ﴿وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت﴾ (الحج، ٢٦).
فبنى إبراهيم وإسمعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسمعيل يناوله الحجارة ولما كان له مدخل في البناء عطف عليه وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب. قال ابن عباس: بني البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشأم، والجوديّ وهو جبل بالجزيرة، وبنيا قواعده من جبل حراء وهو جبل بمكة، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسمعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال: ائتني بأحسن من هذا فمضى إسمعيل يطلبه فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل: أوّل من بنى الكعبة آدم ثم اندرس من الطوفان ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه وقيل: بنته الملائكة قبل آدم وقد بني إلى يومنا هذا سبع مرّات: المرّة الأولى هل كان الباني الملائكة أو آدم؟ ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قريش وقد حضر النبيّ ﷺ هذا البناء وكان ينقل معهم الحجارة ثم ابن الزبير في خلافته ثم الحجاج الثقفي وهو الموجود اليوم.
﴿ربنا واجعلنا مسلمين﴾ أي: منقادين مخلصين خاضعين ﴿لك﴾ والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ﴿و﴾ اجعل ﴿من ذريتنا﴾ أي: أولادنا ﴿أمّة﴾ أي: جماعة ﴿مسلمة﴾ خاضعة منقادة ﴿لك﴾ ومن للتبعيض أي: واجعل بعض ذرّيتنا وإنما خصا الذرّية بالدعاء؛ لأنهم أحق بالشفقة؛ ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.
ألا ترى أنّ المتقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم وخصا بعضهم لتقدّم قوله تعالى: ﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾ (البقرة، ١٢٤) فعلما أنّ في ذرّيتهما ظلمة وأنّ الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاق الناس كلهم على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى الذين صرفوا أنفسهم إلى الدنيا، لخربت الدنيا ويصح أن تكون من للتبيين كقوله تعالى: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم﴾ (النور، ٥٥) قدم على المبين وفصل به بين العاطف وهو واو ومن والمعطوف وهو أمة كما في قوله تعالى: ﴿خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ﴾ (الطلاق، ١٢) وقيل: أراد بالأمّة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم
﴿وأرنا﴾ علّمنا ﴿مناسكنا﴾ شرائع ديننا وإعلام حجنا، والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن المعتاد كالصيد والتمتع باللباس وغيره، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما وبعث لهما جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم قال: نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات، وقرأ ابن كثير والسوسي أرنا بسكون الراء وقرأ الدوري عن أبي عمرو باختلاس حركة والراء والباقون بالحركة الكاملة ﴿وتب علينا﴾ سأله التوبة مع عصمتهما هضماً لأنفسهما
أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين. قال بعض أهل العلم: إنهم عزموا على قتله وعصمه الله تعالى رحمة بهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعين، واختلف في موضع ذلك الجب، فقال قتادة: هو ببيت المقدس وقال وهب: هو بأرض الأردن. وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقرأ نافع بألف بين الباء والتاء على الجمع والباقون بغير ألف على التوحيد ﴿يلتقطه﴾، أي: يأخذه ﴿بعض السيارة﴾ جمع سيار، أي: المبالغ في السير، وذلك الجب كان معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين، فإذا أخذوه ذهبوا به إلى ناحية أخرى فنستريح منه ﴿إن كنتم فاعلين﴾، أي: ما أردتم من التفريق فاكتفوا بذلك ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل.
﴿قالوا﴾ إعمالاً للحيلة في الوصول إليه مستفهمين على وجه التعجب؛ لأنه كان أحس منهم السوء فكان يحذرهم عليه ﴿يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و﴾ الحال ﴿إنا له لناصحون﴾، أي: قائمون بمصلحته وحفظه.
تنبيه: اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحرّكة واتفقوا أيضاً على إدغامها مع الإشمام.
﴿أرسله معنا غداً﴾، أي: إلى الصحراء ﴿نرتع﴾، أي: نتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل الرتع أكل البهائم في الخصب في زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير ﴿ونلعب﴾ روي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد باللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي أنه ﷺ قال لجابر: «فهلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك» وأيضاً كان لعبهم الاستباق والانتضال والغرض منه المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم ﴿إنا ذهبنا نستبق﴾ وإنما سموه لعباباً لأنه في صورته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيهما، والباقون بالياء، وسكن العين أبو عمرز وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وكسرها الباقون في الوصل، ولقنبل وجه آخر وهو أنه يثبت الياء في نرتع بعد العين وقفاً ووصلاً ﴿وإنا له لحافظون﴾، أي: بليغون في الحفظ له حتى نردّه إليك سالماً. قال أبو حيان: وانتصب ﴿غداً﴾ على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غداً غدو فحذفت الواو انتهى. ثم إنّ يعقوب عليه السلام اعتذر لهم بعذرين الأوّل: ما حكاه الله تعالى عنه بقوله:
﴿قال إني ليحزنني أن تذهبوا به﴾، أي: ذهابكم به، والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب؛ لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والثاني: قوله: ﴿وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون﴾ بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم به، وكان يعقوب عليه السلام رأى في النوم أنّ الذئب شدّ على يوسف فكان يحذره فمن أجل هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم العلة، وفي أمثال العرب البلاء موكل بالمنطق، والمراد به الجنس، وكانت أرضهم كثيرة الذئاب.
﴿قالوا﴾ مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله مؤكدين لتطييب خاطره دالين على القسم بلامه ﴿لئن أكله الذئب ونحن﴾، أي: والحال أنَّا ﴿عصبة﴾، أي: جماعة عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب، وأجابوا عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط
عادتي وعادت آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل، وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق يحمله ففعل ذلك اضطراراً وهو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات، وعن الرابع: بأن شعيباً عليه السلام كان يعلم طهارة ابنته وبرائتها إما بوحي أو بغيره فكان يأمن عليها قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه: فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فوصفت ردفها فكره موسى عليه السلام أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي أو قال موسى أني من عنصر إبراهيم فكوني خلفي حتى لا يرفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحلّ، وفي رواية كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحصا لأن صوت المرأة عورة.
فإن قيل: لِمْ خشى موسى عليه السلام أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره مع الخضر عليه السلام ذلك حين قال لو شئت لتخذت عليه أجراً؟ أجيب: بأن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز، وأما الاستئجار ابتداء فغير مكروه ﴿فلما جاءه﴾ أي: موسى شعيباً ﴿وقص﴾ أي: موسى عليه السلام ﴿عليه﴾ أي: شعيب عليه السلام ﴿القصص﴾ أي: حدّثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله تعالى (تنبيه) القصص مصدر كالعلل سمى به المقصوص، قال الضحاك: قال: له من أنت يا عبد الله، قال: أنا موسى بن عمران بن بصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه ثم إن شعيباً عليه السلام أمنه بأن:
﴿قال﴾ له ﴿لا تخف نجوت من القوم الظالمين﴾ أي: فإن فرعون لا سلطان له بأرضنا، فإن قيل: أن المفسرين قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى ركب في ألف ألف وستمائة ألف والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام؟ أجيب: بأن هذا ليس بمحال وإن كان نادراً ولما أمنه واطمأن.
﴿قالت إحداهما﴾ أي: المرأتين وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها ﴿يا أبت استأجره﴾ أي: اتخذه أجيراً ليرعى أغنامنا ﴿إن خير مَنْ استأجرت القويّ الأمين﴾ أي: خير من استعملت من قوي على العمل لشيء من الأشياء وأداء الأمانة، قال أبو حيان: وقولها قول حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته، وإنما جعل خير من استأجرت اسماً والقويّ الأمين خبراً مع أن العكس أولى لأنّ العناية هي سبب التقديم، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبراً اسماً، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف.
وعن ابن عباس: أن شعيباً اختطفته الغيرة فقال وما علمك بقوّته وأمانته فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وإنه صوّب أي: خفض رأسه حين بلغته رسالة أبيها إليه وأمرها بالمشي خلفه، وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله ﴿عسى أن ينفعنا﴾ وأبو بكر في عمر ولما أعلمته ابنته بذلك.
﴿قال﴾ لموسى عليه السلام عند ذلك ﴿إني أريد﴾ يا موسى والتأكيد لأن الغريب قلما يرغب فيه أوّل ما يقدم
وعادة مستمرّة كما تشاهدونه فقد كان منا بالإحياء الأوّل المبدأ ﴿وإلينا﴾ أي: خاصة بالإماتة ثم الأحياء ﴿المصير﴾ أي: في الآخرة. وقيل تقديره نميت في الدنيا ونحيي في الآخرة للبعث. وإلينا المصير بعد البعث وقوله تعالى:
﴿يوم﴾ يدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض. وقرأ ﴿تشقق الأرض﴾ نافع وابن كثير وابن عامر بتشديد الشين والباقون بالتخفيف ﴿عنهم﴾ أي: مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء حال كونهم ﴿سراعاً﴾ أي: إجابة منادينا وهو جمع سريع وأشار إلى عظمة الأمر بقوله تعالى ﴿ذلك﴾ أي: الإخراج العظيم جدّاً ﴿حشر﴾ أي: جمع بكره وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقدم الجار فقال تعالى: ﴿علينا﴾ أي: خاصة ﴿يسير﴾ فكيف يتوقف فيه عاقل فضلاً عن أن ينكره وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه. تنبيه: علينا متعلق بيسير ففصل بمعمول الصفة بينها وبين موصوفها ولا يضرّ ذلك. وقال الزمخشريّ: التقديم للاختصاص وهو ما أشرت إليه أي لا يتيسر ذلك إلا على الله تعالى وحده وهو إعادة جواب قولهم ذلك رجع بعيد. وقوله تعالى:
﴿نحن أعلم﴾ أي: عالمون ﴿بما يقولون﴾ أي: في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره تسلية النبي ﷺ وتهديد لهم ﴿وما أنت عليهم بجبار﴾ أي: بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما أنت منذر وقد فعلت ما أمرت به ونحن القادرون على ردهم بما لنا من العلم المحيط وهذا قبل الأمر بالقتال ﴿فذكر﴾ أي: بطريق البشارة والنذارة ﴿بالقرآن﴾ أي: الجامع بمجده لكل خير المحيط بكل صلاح ﴿من يخاف وعيد﴾ فإنه لا ينتفع به غيره وهم المؤمنون. وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وحذفها الباقون وصلا ووقفاً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال «من قرأ سورة ق هوّن الله عليه ثأرات الموت وسكراته» حديث موضوع وثأرات الموت بمثلثة وهمزة مفتوحة أهواله.
سورة الذاريات
مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمةوألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفاً
﴿بسم الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال فهو لا يخلف الميعاد ﴿الرحمن﴾ الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد ﴿الرحيم﴾ الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد ولما ختم الله سبحانه وتعالى ق بالتذكير بالوعيد افتتح هذا بالقسم البالغ على صدقه، فقال عز من قائل مناسباً بين القسم والمقسم عليه.
﴿والذاريات﴾ أي: الرياح تذرو التراب وغيره، وقيل: النساء الوالدات، فإنهنّ يذرين الأولاد، وقوله تعالى ﴿ذروا﴾ منصوب على المصدر المؤكد والعامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل والمفعول محذوف اقتصاراً، يقال: ذرت الريح التراب وأذرته.
﴿فالحاملات﴾ أي: السحب تحمل الماء وقيل: الرياح الحاملة للسحاب وقيل النساء الحوامل وقوله تعالى: ﴿وقراً﴾ أي: ثقلاً مفعول به بالحاملات كما يقال حمل فلان عدلاً ثقيلاً، قال الرازي: ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر كقوله: ضربته سوطاً.
﴿فالجاريات﴾ أي: السفن، وقيل: الرياح الجارية


الصفحة التالية
Icon