بالصلاة إنما وقع في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج؛ لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها. ﴿والصلاة الوسطى﴾ أي: الوسطى بين الصلوات أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط، وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل، وهي صلاة العصر على الراجح لقوله ﷺ يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً» وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها واجتماع الملائكة قال ﷺ «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وقيل صلاة الصبح، لأنها بين صلاتي الليل والنهار، والواقعة في الجزء المشترك بينهما لأنها مشهودة تشهدها الملائكة الحفظة، نصّ عليها الشافعيّ رحمه الله تعالى لكن رجح الأصحاب الأوّل عملاً بقوله: حيث صحّ الحديث فهو مذهبي وقيل: صلاة الظهر؛ لأنها وسط النهار، وكانت أشق الصلوات عليهم، فكانت أفضل لأنه ﷺ «سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: «أحزمها» وهو بحاء مهملة وزاي أقواها وأشدها، وقيل: صلاة المغرب لأنها متوسطة بالعدد لأنّ عددها بين عددي الركعتين والأربع، وقيل: صلاة العشاء لأنها بين جهريتين واقعتين طرفي النهار لا يقصران، وهما المغرب والصبح وقال بعضهم: هي إحدى الصوات الخمس لا بعينها أبهمها الله تعالى تحريضاً للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها ﴿وقوموا﴾ في الصلاة ﴿قانتين﴾ أي: مطيعين لقوله ﷺ «كل قنوت في القرآن فهو طاعة» أو ساكنين لحديث زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام»، رواه الشيخان.I
وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح.
﴿فإن خفتم﴾ من عدوّ أو سبع أو سيل أو نحو ذلك ﴿فرجالاً﴾ جمع راجل أي: مشاة صلوا ﴿أو ركباناً﴾ جمع راكب أي: كيف أمكن مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها ويومىء بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع. والصلاة في حال الخوف على أقسام وهذه صلاة شدّة الخوف وسيأتي بقية الأقسام إن شاء الله تعالى في سورة النساء. ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم.
وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين» وفي الخوف ركعة، وفي الآية دليل على وجوب الصلاة حال المقاتلة، وإليه ذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: لا يصلي حال المشي والمقاتلة ما لم يمكن الوقوف، وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر واذكر الله فتلك صلاتك ﴿فإذا أمنتم﴾ من الخوف ﴿فاذكروا الله﴾ أي: صلوا الصلوات الخمس تامّة بحقوقها ﴿كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها، والكاف بمعنى مثل وما موصولة أو مصدرية.
﴿والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم﴾ قرأ نافع وابن كثير وشعبة والكسائي وصية بالرفع أي: فعليهم وصية، والباقون بالنصب أي: فليوصوا وصية، وقوله تعالى: ﴿متاعاً﴾ نصب على المصدر أي: متعوهنّ متاعاً أي: يتمتعن به من النفقة والكسوة ﴿إلى﴾ تمام ﴿الحول﴾ من
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال: «من سره أن يبسط في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه». ومعنى ينسأ يؤخر، والمراد به تأخير الأجل، وفيه قولان:
أحدهما وهو المشهور: أنه يزاد في عمره زيادة حقيقية.
والثاني: يبارك له في عمره فكأنه قد زيد فيه. وعن ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها». وعن رسول الله ﷺ أنه قال: «تأتي يوم القيامة لها ألسنة ذلقة الرحم فتقول: أي: رب قطعت والأمانة تقول: أي رب تركت والنعمة تقول: أي: رب كفرت». وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ فقالوا: من خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة، فأساء إليها لم يكن من المحسنين.
﴿ويخشون ربهم﴾، أي: وعيده عموماً، والخشية خوف يشوبه تعظيم ﴿ويخافون سوء الحساب﴾ خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ﴿والذين صبروا﴾، أي: على طاعة الله تعالى وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه. وقال ابن عباس: صبروا على أمر الله. وقال عطاء: على المصائب والنوائب. وقيل: صبروا عن الشهوات وعن المعاصي، ومرجع الكل واحد فإنّ الصبر الحبس، وهو تجرع مرارة منع النفس عما تحب مما لا يجوز فعله ﴿ابتغاء﴾، أي: طلب ﴿وجه ربهم﴾، أي: رضاه لا طلب غيره من جور أو سمعة أو رياء أو لغرض من أغراض الدنيا أو نحو ذلك ﴿وأقاموا الصلاة﴾، أي: المفروضة، وقيل: مطلق الصلاة، فيدخل فيه الفرض والنفل.
﴿وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية﴾ قال الحسن: المراد به الزكاة، فإن لم يتهم بترك الزكاة فالأولى أن يؤدّيها سرًّا، وإن كان يتهم بترك أدائها، فالأولى أن يؤدّيها علانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوّع، وبالعلانية الزكاة. وقيل: المراد بالسر ما يؤدّيه من الزكاة بنفسه وبالعلانية ما يدفعه إلى الإمام. ﴿ويدرؤون﴾، أي: يدفعون ﴿بالحسنة السيئة﴾ كالجهل بالحلم والأذى بالصبر. روي عن ابن عباس قال: يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل، وهو معنى قوله تعالى: ﴿إنّ الحسنات يذهبن السيئات﴾ (هود، ١١٤) وقوله ﷺ «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية». وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله ﷺ قال: «إنّ مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيق قد خنقه ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض». وقال ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عمر: ليس الواصل من وصل، ثم وصل تلك مجازاة لكن من قطع ثم وصل وعطف من لم يصله، وليس الحليم من ظلم، ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا، وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره، وروي أنّ شقيقاً البلخي دخل على ابن المبارك متنكراً فقال له: من أين أنت؟ فقال: من بلخ. فقال: وهل تعرف شقيقاً؟ قال: نعم. فقال: وكيف طريقة أصحابه؟ قال: إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا. فقال ابن المبارك: طريقة كلابنا هكذا. فقال شقيق: فكيف ينبغي أن يكون الأمر؟ فقال: الكاملون
من الالتقاء الأوّل وغلبت الروم فارس، وسبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين، والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليه رجلاً يقال له شهريار، وبعث قيصر جيشاً واستعمل عليه رجلاً يدعى بخنس، فالتقى مع شهريار بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم، وبلغ ذلك النبيّ ﷺ وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبيّ ﷺ يكره أن تظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكة وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ولنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية. فخرج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله لتظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا ﷺ فقال له أبيّ بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فضيل فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدوّ الله فقال: اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ـ والمناحبة المراهنة ـ فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما فإن ظهرت الروم على فارس غرمتَ وإن ظهرت فارس غرمتُ وجعلا الأجل ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك فقال ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبياً فقال: لعلك ندمت قال: لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. وقيل: إلى سبع سنين قال: قد فعلت، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم
لي كفيلاً فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أُحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال: والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله ﷺ حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم، وقيل كان يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به إلى رسول الله ﷺ فقال تصدّق به، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة وأنّ القرآن من عند الله لأنه أنبأ عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
فإن قيل: كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ أجيب: بأن قتادة رحمه الله تعالى قال: كان ذلك قبل تحريم القمار، وقال الزمخشري: ومذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر رضي الله عنه بينه وبين أبي بن خلف. ولما كان تغلب ملك على ملك من الأمور الهائلة وكان الإخبار به قبل كونه أهول ذكر علة ذلك بقوله تعالى: ﴿لله﴾ أي: وحده ﴿الأمر من قبل﴾ أي: قبل جولة فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس ﴿ومن بعد﴾ أي: بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم، ولما أخبر تعالى بهذه المعجزة أخبر بمعجزة
عليه القراء بما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد.
﴿وكل صغير وكبير﴾ أي: من الخلق وأعمالهم وآجالهم ﴿مستطر﴾ أي: مكتوب في اللوح المحفوظ.
ولما وصف الكفار وصف المؤمنين مؤكداً رداً على المنكر فقال عز من قائل: ﴿إنّ المتقين﴾ أي: العريقين في وصف الخوف من الله الذي وفقهم لطاعته ﴿في جنات﴾ أي: خلال بساتين ذات أشجار تستر داخلها وقوله تعالى: ﴿ونهر﴾ أريد به الجنس: لأن فيها أنهاراً من ماء وعسل ولبن وخمر؛ أفرده لموافقة رؤوس الآي ولشدة اتصال بعضها ببعض فكأنها شيء واحد. والمعنى: أنهم يشربون من أنهارها وقيل: هو السعة والصفاء من النهار.
وكما جعل للمتقين في تلك الدار ذلك جعل لهم في هذه الدار أيضاً جنات العلوم وأنهار المعارف ولهذا كانوا ﴿في مقعد صدق﴾ أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم، ولم يقل في مجلس صدق، لأنّ القعود جلوس فيه مكث ومنه قواعد البيت والقواعد من النساء ولذا قال: ﴿عند مليك﴾ أي: ملك تام الملك ﴿مقتدر﴾ أي: قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى. وعند إشارة للرتبة والكرامة والمنزلة من فضله تعالى، جعلنا الله تعالى ومحبينا منهم.
وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة القمر في كل غبّ ـ أي يقرأ يوماً ويترك يوماً ـ بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر». حديث موضوع.
سورة الرحمن
وتسمى عروس القرآن
لأنها مجمع النعم والجمال والبهجة في نوعها والكمال مكية كلها في قول الحسن وعروة وابن الزبير وعطاء وجابر؛ وقال ابن عباس: إلا آية منها وهي: قوله تعالى: ﴿يسأله من في السموات والأرض﴾ (الرحمن: ٢٩)
الآية وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها قال ابن عادل: والأوّل أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي ﷺ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط فمن رجل يسمعهموه، فقال ابن مسعود: أنا فقالوا نخشى عليك وإنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الرحمن علم القرآن﴾ ثم تمادى بها رافعاً صوته وقريش في أنديتها فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه، وصح أنّ النبيّ ﷺ «قام يصلي الصبح بنخلة فقرأ بسورة الرحمن، ومرّ النفر من الجن فآمنوا به» وهي سبع وثمانون آية وثلاثمائة، وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته؛ ﴿الرحمن﴾ الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته؛ ﴿الرحيم﴾ الذي ظهر اختصاصه لأهل طاعته بما تحققوا من الذلّ المفيد للعز بلزوم عباداته.
ولما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها بقوله تعالى:
﴿علم﴾ أي: من شاء ﴿القرآن﴾ وقدم من نعمه الدينية ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه تعالى بالقرآن العظيم، وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم