الله تعالى للقارىء: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وأناء النهار فيقول الله تعالى: كذبت وتقول الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان قارىء، وقد قيل، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، وقد قيل، ثم ضرب رسول الله ﷺ ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة».
﴿وا لا يهدي القوم الكافرين﴾ إلى الخير والرشاد وفيه تعريض بأنّ الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق صفة الكفار ولا بد أن تجتنبوا عنها.
﴿ومثل﴾ نفقات ﴿الذين ينفقون أموالهم ابتغاء﴾ أي: طلب ﴿مرضاة الله﴾ أي: رضاه ﴿وتثبيتاً من أنفسهم﴾ أي: تثبيتاً بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم، والصبر على جميع مشاق التكاليف، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال، الذي هو شقيق الروح، فإن بذله أشق شيء على النفس؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها، وقلّ طعمها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طَعَمُها في اتباع الشهوات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله: هز من عطفه وحرك من نشاطه.
فإن قيل: ما معنى التبعيض؟ أجيب: بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى: ﴿حسداً من عند أنفسهم﴾ ﴿كمثل جنة﴾ أي: بستان ﴿بربوة﴾ وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء، وإنما جعلها بربوة، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها ﴿أصابها وابل﴾ أي: مطر شديد كثير.
﴿فأتت﴾ أي: أعطت ﴿أكلها﴾ أي: ثمرتها، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف، والباقون بضمها ﴿ضعفين﴾ أي: مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل: أربعة أمثاله، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي، وقال أبو حيان: يحتمل أنها للتكثير أي: ضعفاً بعد ضعف أي: أضعافاً كثيرة، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط، بل بعشر وسبعمائة وأزيد، ونصبه على الحال أي: مضاعفاً.
﴿فإن لم يصبها وابل فطل﴾ أي: مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت ﴿وا بما تعملون بصير﴾ فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد.
﴿أيودّ أحدكم﴾ أي: أيحب حباً شديداً ﴿أن تكون له جنة﴾ أي: بستان ﴿من نخيل﴾ جمع نخلة، وهي الشجرة القائمة على ساق،
على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط اه. ثم قال لهم: ﴿فلا تلوموني﴾، أي: لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة ﴿ولوموا أنفسكم﴾ ؛ لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ، ولا تسمعوا قولي، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل.
فإن قيل: لم قال الشيطان: ﴿فلا تلوموني﴾ وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة؟ أجيب: بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: ﴿ما أنا بمصرخكم﴾، أي: بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فأزيل صراخكم منه. ﴿وما أنتم بمصرخي﴾، أي: بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في إلتقاء الساكنين؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة، وياء المتكلم أصلها السكون، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين.I
قال البيضاوي: وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع حركة ياء الإضافة اه. فقوله: أصل مرفوض، أي: متروك عند النحاة، وإلا فهو قراءة متواترة عند القراء، فيجب المصير إليها؛ لأنها وردت من رب العالمين على لسان سيد المرسلين.
وقول الفراء: ولعلها من وهم القراء، فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ممنوع، فقد قال أبو حيان: هي قراءة متواترة نقلها السلف، واقتفى آثارهم فيها الخلف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة لكن قلّ استعمالها، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع، ونص على أنها صواب أبو عمرو بن العلاء، لما سئل عنها، والقاسم بن معن من روؤساء الكوفيين. قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: ﴿إني كفرت بما أشركتموني من قبل﴾، أي: كفرت اليوم باشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا كقوله تعالى: ﴿ويوم القيامة يكفرون بشرككم﴾ (فاطر، ١٤)
ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى: ﴿إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم﴾ (الممتحنة، ٤)
. وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله ﷺ في حديث الشفاعة «يقول: عيسى ذلك النبيّ الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل فيّ نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون: ما هو غير الشيطان هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد، ثم يعظم لهبهم ويقول عند ذلك: ﴿إن الله وعدكم وعد الحق﴾ الآية».
قال في «الكشاف» : وقوله ﴿إن الظالمين﴾، أي: الكافرين ﴿لهم عذاب أليم﴾، أي: مؤلم من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان
وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنين ﴿لقد لبثتم في كتاب الله﴾ أي: فيما كتب الله لكم في سابق علمه وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون في كتاب الله متعلق بلبثتم، وقال مقاتل وقتادة: فيه تقديم وتأخيره معناه: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم ﴿إلى يوم البعث﴾ و (في) ترد بمعنى (الباء) فردّوا ما قال هؤلاء الكفار وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم ﴿فهذا يوم البعث﴾ الذي أنكرتموه، وقراء نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة، والباقون بالإدغام.
تنبيه: سبب اختلاف الفريقين أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل إن علم أنّ مصيره إلى النار وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان، وفي هذه الفاء قولان: أظهرهما: أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم، وقال الزمخشريّ: هي جواب شرط مقدّر أي: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي: فقد تبين بطلان ما قلتم، ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله تعالى ﴿ولكنكم كنتم﴾ أي: كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له ﴿لا تعلمون﴾ أي: ليس لكم علم أصلاً لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم، ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، تسبب عن ذلك قوله تعالى:
﴿فيومئذ﴾ أي: إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة ﴿لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم﴾ في إنكارهم له ﴿ولا هم يستعتبون﴾ أي: لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا، من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته أي: استرضاني فأرضيته، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما، والباقون بالتاء الفوقية، ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول ﷺ تقصير بقوله تعالى:
﴿ولقد ضربنا﴾ أي: جعلنا ﴿للناس في هذا القرآن﴾ أي: في هذه السورة وغيرها ﴿من كل مثل﴾ أي: معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال، فإن طلبوا شيئاً آخر غير ذلك فهو عناد محض؛ لأنّ من كذب دليلاً حقاً لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعاً من الدلائل؟ أجيب: بأنهم سردوها سرداً ثم قرروا فرداً فرداً كمن يقول: الدليل عليه من وجوه الأوّل: كذا، والثاني: كذا، والثالث: كذا، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: ﴿ولئن﴾ اللام لام قسم ﴿جئتهم﴾ يا أفضل
أي: المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف؛ وقيل: لفظ اسم زائد وجرى عليه الجلال المحلي والأوّل أولى.
﴿ذي الجلال﴾ أي: العظمة الباهرة ﴿والإكرام﴾ قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: ﴿الرحمن﴾ فافتتح بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجنّ، وخلق السموات والأرض وصنعه؛ وأنه تعالى كل يوم هو في شان، ووصف تدبيره فيهم؛ ثم وصف يوم القيامة، وأهوالها، وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان.
ثم قال في آخر الصفة ﴿تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام﴾ أي: هذا لاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أنّ هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض والخليقة والجنة والنار فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه فقال تعالى: ﴿تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام﴾ أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله وقرأ ابن عامر: بالواو رفعاً صفة للاسم والباقون بالياء خفضاً صفة لرب، فإنه هو الموصوف بذلك. روى الثعلبي عن علي أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره». وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري: من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه» حديث موضوع.
سورة الواقعة
مكية
في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء؛ وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: ﴿وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون﴾ وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات؛ منها آيتان ﴿أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون﴾ نزلتا في سفره إلى مكة؛ وقوله تعالى: ﴿ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين﴾ نزلتا في سفره إلى المدينة، وقدّمنا أنّ في المدني والمكي اصطلاحين، وأنّ المشهور أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة؛ والمدني ما نزل بعدها وهي ست وتسعون آية؛ قال الجلال المحلي: وهي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية وثلاثمئة وثمان وتسعون كلمة، وألف وسبع مئة وثلاثة أحرف.
﴿بسم الله﴾ الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال ﴿الرحمن﴾ الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال ﴿الرحيم﴾ الذي قرب أهل حزبه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.
ولما قسم سبحانه الناس في تلك السورة إلى ثلاثة أصناف مجرمين وسابقين ولاحقين، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بقوله تعالى:
﴿إذا وقعت الواقعة﴾ أي: التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق، فسميت واقعة لتحقق وقوعها، وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت، وقال الجرجاني: إذا صلة كقوله تعالى: ﴿اقتربت الساعة﴾ (القمر: ١)
و ﴿أتى أمر الله﴾ (النحل: ١)
وهو كما يقال: جاء الصوم أي دنا وقرب وقوله تعالى: {ليس لوقعتها