ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان، فالنهي هما متوجه إلى القيد وحده، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله ﷺ «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، الآية فلو أنّ قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامهم وليس لهم طعام غيره».
﴿واعتصموا بحبل الله﴾ أي: بدينه وهو دين الإسلام استعار له الحبل من حيث إنّ التمسك به سبب للنجاة من الردى كما أنّ التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي أو بكتابه وهو القرآن لقوله ﷺ «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» وقوله تعالى: ﴿جميعاً﴾ حال أي: مجتمعين عليه ﴿ولا تفرقوا﴾ أي: ولا تتفرقوا بعد الإسلام بوقوع الإختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه.
﴿واذكروا نعمة الله﴾ أي: إنعامه ﴿عليكم﴾ التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدّي إلى التآلف ﴿إذ كنتم أعداء﴾ في الجاهلية بينكم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ﴿فألف بين قلوبكم﴾ بالإسلام وقذف فيها المحبة ﴿فأصبحتم بنعمته إخواناً﴾ متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد وهو الأخوّة في الله وقيل: هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة بسبب قتيل وتطاولت الحروب والعداوة بينهم مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله ﷺ ﴿وكنتم على شفى﴾ أي: طرف ﴿حفرة من النار﴾ أي: حفرة ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفاراً ﴿فأنقذكم منها﴾ بالإسلام والضمير للحفرة أو النار أو الشفى وأنثه لتأنيث ما أضيف إليه كقول الشاعر:
*كما شرقت صدر القناة من الدم*
﴿كذلك﴾ أي: مثل ذلك البيان البليغ ﴿يبين الله لكم آياته﴾ أي: دلائله ﴿لعلكم تهتدون﴾ إرادة أن تزدادوا هدى.
﴿ولتكن منكم أمة﴾ أي: طائفة ﴿يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ فمن للتبعيض؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشره، فإنّ الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وعلى هذا فالمخاطب به الكل على الأصح ويسقط بفعل البعض الحرج عن الباقين وهكذا كل ما هو فرض كفاية، فإن تركوه أصلاً أثموا جميعاً وقيل: من زائدة وقيل: للتبيين بمعنى وكونوا أمة تأمرون بالمعروف كقوله تعالى: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف﴾ ﴿وأولئك﴾ أي: الداعون الآمرون الناهون ﴿هم المفلحون﴾ أي: الفائزون بكمال الفلاح.
روى الإمام أحمد وغيره «أنه ﷺ سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم للرحم».
وروي أنه ﷺ قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه».
وروي أنه ﷺ قال: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
وروي أنه ﷺ قال: «والذي نفسي
على الله الاسم الأعظم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى. ﴿ما في السموات والأرض﴾ أي: ما تعبدونه وغيره فكيف يتصوّر أن يكون شيء من ذلك إلهاً، وهو ملكه مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما. ﴿وله الدين﴾ أي: الطاعة وقوله تعالى: ﴿واصباً﴾ أي: دائماً حال من الدين والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه وتعالى فإطاعته واجبة أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً. وقوله تعالى: ﴿أفغير الله﴾ أي: الذي له العظمة كلها ﴿تتقون﴾ استفهام إنكار والمعنى: أنكم بعدما عرفتم أنّ إله العالم واحد وعرفتم أنّ كل ما سواه محتاج إليه في وقت دوامه وبقائه فبعد العلم بذلك كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة من غير الله تعالى ولما بيّن تعالى أنّ الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله بيّن أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى بقوله تعالى: ﴿وما بكم من نعمة﴾ أي: من نعمة الإسلام وصحة الأبدان وسعة في الأرزاق وكل ما أعطاكم من مال أو ولد أو جاه ﴿فمن الله﴾ هو المتفضل على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه لأنّ الشكر إنما يجب على النعمة، فثبت بهذا أنّ العاقل يجب عليه أن لا يخاف، وأن لا يشكر إلا الله تعالى. تنبيه: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإيمان حصل بخلق الله فقالوا: الإيمان نعمة وكل نعمة فمن الله ينتج أنّ الإيمان من الله وأيضاً النعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعاً به وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان فثبت أنّ الإيمان نعمة والمسلمون مطبقون على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان والنعم إمّا دينية وإمّا دنيوية. أمّا النعم الدينية فهي إمّا معرفة الحق لذاته وإمّا معرفة الخير لأجل العمل به. والنعم الدنيوية إمّا
نفسانية وإمّا بدنية وإمّا خارجية، وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر. كما قال تعالى: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ (إبراهيم، ٣٤)
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند ذكر هذه الآية. ولما كان إخلاصهم له مع ادعائهم ألوهية غيره أمراً مستبعداً عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى: ﴿ثم إذا مسكم﴾ أي: أصابكم أدنى مس ﴿الضّرّ﴾ بزوال نعمة مما أنعم به عليكم. وقال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة. ﴿فإليه﴾ أي: لا إلى غيره ﴿تجأرون﴾ أي: ترفعون أصواتكم بالاستغاثة لما ركز في فطرتكم الأوّلية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
﴿ثم إذا كشف﴾ سبحانه وتعالى ﴿الضّرّ﴾ أي: الذي مسكم ﴿عنكم﴾ ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال: ﴿إذا فريق﴾ أي: جماعة هم أهل فرقة وضلال ﴿منكم﴾ أي: أيها العباد ﴿بربهم﴾ الذي تفرّد بالإنعام عليهم ﴿يشركون﴾ أي: يوقعون الإشراك بعبادة غيره.
﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ أي: من النعم. تنبيه: في هذه اللام وجهان: الأوّل: أنها لام كي فيكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر. الثاني: أنها لام العاقبة كما في قوله تعالى: ﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً﴾ (القصص، ٨)
والمعنى عاقبة أمرهم هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء، وكشفنا عنهم الضر والبلاء. ثم إنه تعالى توعدهم بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿فتمتعوا﴾ أي: باجتماعكم على عبادة الأصنام وهذا لفظه أمر والمراد منه التهديد كقوله تعالى:
عليه وسلم من حصنهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً، ومر رسول الله ﷺ على أصحابه قبل أن يصل إلى بني قريظة قال: هل مر بكم أحد قالوا: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة شهباء عليها قطيفة من ديباج قال ﷺ ذاك «جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب».
ولما أتى رسول الله ﷺ بني قريظة نزل على بئر من آبارها فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله ﷺ «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله تعالى بذلك، ولا عنفهم رسول الله ﷺ وكان جي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده، فلما أيقنوا أن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما نزل، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دياركم وأبنائكم وأموالكم ونسائكم.
قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم هذا فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد ﷺ وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا أحداً ولا شيئاً نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لتحدث النساء والأبناء قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم، فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا، فانزلوا لعلنا أن نصيب منهم غرة قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا فتركهم.
قال علماء السير: وحاصرهم رسول الله ﷺ خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله ﷺ تنزلون على حكمي؟ فأبوا وكانوا قد طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمر وبن عوف وكانوا حلفاء الأوس يستشيرونه في أمرهم، فأرسله رسول الله ﷺ إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم فقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه يعني أنه يقتلكم قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى قد عرفت أني خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله ﷺ حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح من مكاني حتى يتوب الله تعالى علي مما صنعت، وعاهد الله تعالى لا يطأ بني قريظة أبداً ولا يراني الله تعالى في بلد خنت فيه الله ورسوله.
فلما بلغ رسول الله ﷺ خبره وأبطأ عليه قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه فقال لهم رسول الله ﷺ تنزلون على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي ﷺ وقال: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة»، ثم استنزلهم
ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد.
فائدة: هذه السورة نصف القرآن عدداً، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة الكريمة مرة أو مرتين أو ثلاثاً. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ «أنّ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله تعالى يوم القيامة حديث موضوع. والله تعالى أعلم.
سورة الحشر
مدنية
في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائةوخمس وأربعون كلمة، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً
﴿بسم الله﴾ الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده ﴿الرحمن﴾ الذي عمت نعمة إيجاده ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة.
ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال تعالى:
﴿سبح﴾ أي: أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص ﴿لله﴾ الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿ما في السموات﴾ أي: كلها ﴿وما في الأرض﴾ أي: كذلك، وقيل: أن اللام مزيدة، أي: نزهة وأتى بما تغليباً للأكثر، وجمع السماء لأنها أجناس.
قيل: بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك، وأفراد الأرض لأنها جنس واحد ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ الذي يغلب كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء ﴿الحكيم﴾ الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ماله من العزة والحكمة سبيلاً.
وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها، قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير، وذلك أنّ النبي ﷺ لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا: هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية، فلما غزا أحد وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله ﷺ والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله ﷺ ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر النبيّ ﷺ بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبيّ ﷺ بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله ﷺ وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة فلما سار إليهم رسول الله ﷺ وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: يا محمد واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، قال: نعم، قالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي ﷺ اخرجوا من المدينة، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن


الصفحة التالية
Icon