لسد جواب القسم مسدّه لكونه دالاً عليه ﴿ورحمة﴾ أي: من الله فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ولا بد من حذف آخر مصحح للمعنى تقديره لمغفرة من الله لكم ورحمة منه لكم.
فإن قيل: المغفرة هي الرحمة فلم كررها ونكرها؟ أجيب: بأنه إنما نكرها إيذاناً بأن أدنى خير وأقلّ شيء خير من الدنيا وما فيها وهو المراد بقوله: ﴿خير مما تجمعون﴾ من الدنيا وأما التكرير فغير مسلم؛ لأنّ المغفرة مترتبة على الرحمة فيرحم ثم يغفر.
فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعون أصلاً؟ أجيب: بأنّ الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً وأيضاً هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
﴿ولئن متم أو قتلتم﴾ على أيّ وجه اتفق هلاككم ﴿لا إلى الله﴾ لا غيره ﴿تحشرون﴾ في الآخرة فيجازيكم وقرأ نافع وحمزة ﴿متم﴾ بكسر الميم والباقون بالضم، وقرأ حفص ﴿يحشرون﴾ بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب ورسمت لا إلى الله بألف بعد اللام.
فإن قيل: هنا ثلاثة مواضع فقدّم الموت على القتل في الأوّل والأخير وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك؟ أجيب: بأنّ الأوّل لمناسبة ما قبله من قوله: ﴿إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا﴾ فرجع الموت لمن ضرب في الأرض والقتل لمن غزا، وأمّا الثاني فلأنه محل تحريض على الجهاد فقدّم الأهم الأشرف، وأمّا الأخير فلأن الموت أغلب.
﴿فبما رحمة﴾ أي: فبرحمة ﴿من الله لنت لهم﴾ فما مزيدة للتأكيد والجار والمجرور مقدّم للدلالة على أنّ لينه ﷺ ما كان إلا برحمة من الله، ومعنى الرحمة توفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه ﴿ولو كنت فظاً﴾ أي: سيىء الخلق ﴿غليظ القلب﴾ أي: جافياً ﴿لانفضوا﴾ أي: تفرّقوا ﴿من حولك﴾ أي: عنك وذلك؛ لأنّ المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه وسكون نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم كريماً يتجاوز عن ذنوبهم ويعفو عن سيئاتهم ويخصهم بالبر والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وغلظ القلب ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء. وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال: فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الإنهزام، ولو كنت فظاً غليظ القلب فشافهتهم بالملامة على ذلك الإنهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الإنهزام، فكان ذلك مما يطمع العدوّ فيك وفيهم ﴿فاعف﴾ أي: تجاوز ﴿عنهم﴾ أي: ما أتوه ﴿واستغفر لهم﴾ ذنوبهم حتى أشفعك فيهم فأغفر لهم.
واختلفوا في معنى قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾ على وجوه أحدها: إنّ ذلك يقتضي شدّة محبته لهم فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة لهم فيحل سوء الخلق والفظاظة وثانيها: إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان أكمل الناس عقلاً إلا أنّ عقول الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر ببال آخر لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم» ولهذا السبب قال ﷺ «ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» وثالثها: قال الحسن
خبره، والجملة في محل نصب على الحال على الوجه الأوّل وفي موضع الخبر على الثاني، وأربى مأخوذ من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوّة وفي الشرف. قال مجاهد: وكانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأوّلين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك ﴿إنما يبلوكم الله﴾ الذي له الملك كله، أي: يختبركم ﴿به﴾ أي: يعاملكم معاملة المختبر ليظهر للناس تمسككم بالوفاء وانخلاعكم عنه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم مع قدرته سبحانه وتعالى على ما يريد فيوشك
أن يعاقب
بالمخالفة فيضعف القويّ ويقلل الكثير ويكثر القليل. ﴿وليبينن لكم﴾ أي: إذا تجلى لفصل القضاء ﴿يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾ أي: إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب، فاحذروا يوم العرض على مالك السموات والأرض، وأنّ من نوقش الحساب يهلك.
﴿ولو شاء الله﴾ أي: الملك الأعلى الذي لا أثر لأحد معه أن يجعلكم أمّة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه ﴿لجعلكم أمّة واحدة﴾ أي: متفقة على أمر واحد وهو دين الإسلام ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم فهو تعالى: ﴿يضلّ من يشاء﴾ عدلاً منه تعالى لأنه تامّ الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات ﴿ويهدي﴾ بفضله ﴿من يشاء﴾ ولو كان على أخس الحالات والأحوال فبذلك تكونون مختلفين لا يسئل عما يفعل سبحانه وتعالى ﴿ولتسئلنّ عما كنتم تعملون﴾ في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعدله تعالى. ولما حذر سبحانه وتعالى عن نقض العهد والأيمان مطلقاً قال تعالى:
﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً﴾ أي: فساداً ومكراً وخديعة ﴿بينكم﴾ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان وإلا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد نهي الذين بايعوا النبيّ ﷺ عن نقض العهد لأنّ قوله تعالى: ﴿فتزلَّ﴾ أي: فيكون ذلك سبباً لأن تزل ﴿قدم﴾ هي في غاية العظمة ﴿بعد ثبوتها﴾ أي: عن مركزها التي كانت به من دين أو دنيا فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها لا يليق بنقض عهد قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ﷺ على الإيمان به وبشرائعه. تنبيه: فتزل منصوب بإضمار أن على جواب النهي وزلل القدم مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية أو سقط في ورطة بعد سلامة أو محنة بعد نعمة ﴿وتذوقوا السوء﴾ أي: العذاب في الدنيا ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿صددتم﴾ أي: أنفسكم ومنعتم بأيمانكم التي قد أردتم بها الإفساد وخفاء الحق. ﴿عن سبيل الله﴾ أي: دينه وذلك أنّ من نقض العهد سهل على غيره طرق نقض العهد فيستن به ﴿ولكم﴾ مع ذلك ﴿عذاب عظيم﴾ أي: ثابت غير منفك إذا متم على ذلك ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التحذير بقوله تعالى:
﴿ولا تشتروا﴾ أي: ولا تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر أن تأخذوا وتستبدلوا. ﴿بعهد الله﴾ الذي له الكمال كله ﴿ثمناً قليلاً﴾ أي: من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً ثم علل قلته بقوله تعالى: ﴿إنما عند الله﴾
فسروا قوله تعالى: ﴿إن أراد﴾ بمعنى قبل الهبة لأن بالقبول منه ﷺ يتم نكاحه وهذا لا يتصور تقدمه على الهبة؛ إذ القبول متأخر، فإن العصمة كانت في تأخر إرادته عن هبتها، ولما جاء أبو حيان إلى هنا جعل الشرط الثاني مقدماً على الأول على القاعدة العامة، ولم يستشكل شيئاً مما ذكر. قال ذلك البعض. وقد عرضت هذا الإشكال على جماعة من أعيان زماننا فاعترفوا به ولم يظهر عنه جواب إلا ما قدمته من أنه ثم قرينة مانعة من ذلك كما مثلته آنفاً.
ولما كان ربما فهم أن غير النبي ﷺ يشاركه في هذا المعنى قال الله منبهاً للخصوصية: ﴿خالصة لك﴾ وزاد المعنى بياناً بقوله تعالى: ﴿من دون المؤمنين﴾ أي: من الأنبياء وغيرهم.
تنبيهات: الأول في إعراب خالصة وفيه أوجه: أحدها: أنه منصوب على الحال من فاعل وهبت أي: حالة كونها خالصة لك دون غيرك. ثانيها: أنه نعت مصدرٍ مقدّر أي: هبة خالصة فنصبه بوهبت. ثالثها: أنه حال من امرأة؛ لأنها وصفت فتخصصت، وهو بمعنى الأول، وإليه ذهب الزجاج، وقيل غير ذلك. والمعنى: أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها لك بغير صداق.
التنبيه الثاني: في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة وفيه خلاف: فقال سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء: لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج، وبه قال مالك وربيعة والشافعي. ومعنى الآية: أن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزويج بلفظها من خواصه ﷺ وقال النخعي وأبو حنيفة وأهل الكوفة: ينعقد بلفظ الهبة والتمليك. وأن معنى الآية: أن تلك المرأة صارت خالصة لك زوجة من أمهات المؤمنين لا تحل لغيرك أبداً بالتزويج، وأجيب: بأن هذا التخصيص بالواهبة لا فائدة فيه، فإن أزواجه ﷺ كلهن خالصات له، وما مر فللتخصيص فائدة.
التنبيه الثالث: في التي وهبت نفسها للنبي ﷺ هل كانت عنده امرأة منهن؟ فقال عبد الله بن عباس ومجاهد: لم يكن عند النبي ﷺ امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين وقوله تعالى ﴿وهبت نفسها﴾ على طريق الشرط والجزاء، وقال غيرهما: بل كانت موهوبة وهو ظاهر الآية، واختلفوا فيها: فقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الهلالية يقال لها: أم لمساكين، وقال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث، وقال علي بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر من بني أسد، وقال عروة بن الزبير: هي خولة بنت حكيم من بني سليم.
التنبيه الرابع: في ذكر شيء من خصائصه ﷺ وقد ذكرت منها أشياء كثيرة ينشرح الصدر بها في شرح التنبيه فلا أطيل بذكرها هنا، ولكن أذكر منها طرفاً يسيراً تبركاً ببركة صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن ذكرها مستحب. قال النووي في روضته: ولا يبعد القول بوجوبها لئلا يرى الجاهل بعض الخصائص في الخبر الصحيح فيعمل به أخذاً بأصل التأسي، فوجب بيانها لتعرف وهي أربعة أنواع:
أحدها الواجبات وهي أشياء كثيرة: منها الضحى، والوتر، والأضحية، وفي الحديث ما يدل على أن الواجب أقل الضحى، وقياسه أن الوتر كذلك. ومنها السواك لكل صلاة، والمشاورة لذوي الأحلام في الأمر، وتخيير نسائه بين مفارقته طلباً للدنيا واختياره طلباً للآخرة، ولا يشترط الجواب له منهن
صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرأا بفتح الواو ونصب الراء، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوباً بالبارئ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز ﴿له﴾ أي: خاصة ﴿الأسماء الحسنى﴾ التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن ﴿يسبح﴾ أي: يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿له﴾ أي: على وجه التخصيص ﴿ما في السموات﴾ أي السموات وما فيها ﴿والأرض﴾ وما فيها ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ أي: الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. وعن معقل بن يسار أنّ رسول الله ﷺ قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قاله حين يمسي كان كذلك».
أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وعن أبي هريرة أنه قال: «سألت خليلي أبا القاسم رسول الله ﷺ عن اسم الله الأعظم فقال: عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها فأعدت عليه فأعاد علي» وقال جابر بن زيد: إنّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال «من قرأ سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر» حديث موضوع.
سورة الممتحنة
مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمانوأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف
﴿بسم الله﴾ الذي من تولاه أغناه عمن سواه ﴿الرحمن﴾ الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه ﴿الرحيم﴾ الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة.
﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّى﴾ أي: وأنتم تدّعون موالاتي ﴿وعدوّكم﴾ أي: العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين ﴿أولياء﴾ وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها: سارة أتت النبيّ ﷺ بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت، قالت: لا، قال: أفمهاجرة جئت، قالت: لا، قال: فما جاء بك، قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال ﷺ فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية نائحة قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله ﷺ بني عبد المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها