إليه» أي: يفعل بهم ما يحبّ أن يفعل به.
وقوله تعالى: ﴿لتبلونّ﴾ جواب قسم محذوف تقديره والله لنبلونّ وحذف منه نون الرفع لتوالي النونات والواو ضمير الجمع وحذفت واو الرفع لالتقاء الساكنين أي: لتختبرنّ ﴿في أموالكم﴾ بالفرائض فيها والجوائح ﴿و﴾ في ﴿أنفسكم﴾ بالعبادات والبلاء والأسر والجراح وغير ذلك ﴿ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم﴾ أي: اليهود والنصارى ﴿ومن الذين أشركوا﴾ أي: مشركي العرب ﴿أذى كثيراً﴾ وذلك أنهم كانوا يقولون: عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في النبيّ ﷺ بكل ما يقدرون عليه وهجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفته ﷺ ويجمعون العساكر لمحاربته ويثبطون المسلمين عن نصرته ﴿وإن تصبروا﴾ على ذلك ﴿وتتقوا﴾ الله ﴿فإنّ ذلك من عزم الأمور﴾ أي: من صواب التدبير والرشد الذي ينبغي لكل عاقل أن يقدم عليه، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن جريج والكلبيّ ومقاتل: نزلت في أبي بكر وفنحاص وذلك أنّ رسول الله ﷺ بعث أبا بكر إلى فنحاص اليهودي ليستمدّه وكتب إليه كتاباً لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع إليّ فجاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: احتاج ربك إلى أن نمدّه فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف فتذكر أبو بكر قول النبيّ ﷺ وكف عنه، فنزلت وقال الزهري: نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله ﷺ في شعره ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبيّ ﷺ وعلى أصحابه في شعره ويتشبب بنساء المسلمين.
تنبيه: في الآية تأويلان: أحدهما: المراد بالمصابرة أمر الرسول ﷺ بالصبر على الإبتلاء في النفس والمال وتحمل الأذى وترك المعارضة والمقاتلة وذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين كقوله تعالى: ﴿فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴾ (طه، ٤٤)
وقال تعالى: ﴿قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله﴾ (الجاثية، ١٤)
وقال تعالى: ﴿وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً﴾ (الفرقان، ٧٢)
وقال تعالى: ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾ (الأحقاف، ٣٥)
وقال تعالى: ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم﴾ (فصلت، ٣٤)، قال الواحدي: وهذا قبل نزول آية السيف، وقال القفال: والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول عليه الصلاة والسلام من طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة. التأويل الثاني: إنّ المراد الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم، فالصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي.
اذكر ﴿إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ أي: العهد عليهم في التوراة أي: على علمائهم ﴿ليبيننه﴾ أي: الكتاب ﴿للناس ولا يكتمونه﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بالياء في الفعلين على الغيبة؛ لأنّ أهل الكتاب المخاطبين بذلك غيب، والباقون بالتاء على الخطاب حكاية لمخاطبتهم ﴿فنبذوه﴾ أي: طرحوا الميثاق ﴿وراء ظهورهم﴾ أي: لم يعملوا به ولم يلتفتوا إليه ونقيض هذا جعله نصب عينيه ﴿واشتروا به﴾ أي: أخذوا بدله ﴿ثمناً قليلاً﴾ من حطام
الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً.
ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل: فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ أجيب: بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى. تنبيه: أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية، ورتب ذلك على أربع مراتب المرتبة الأولى: قوله تعالى: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ أي: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله تعالى ورحمته، وفي قوله تعالى: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ دليل على أنّ الأولى له أن لا يفعل كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه: أنّ الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز، والتعريض أنّ الأولى تركه. المرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله تعالى: ﴿ولئن صبرتم لهو خير للصابرين﴾ وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام لأنّ الرحمة أفضل من القسوة والانتفاع أفضل من الانتقام. وقرأ لهو قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون برفعها. المرتبة الثالثة: هو الأمر الجازم بالترك وهو قوله تعالى:
﴿واصبر﴾ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أنّ الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة: صرّح بالأمر بالصبر في هذا المقام. ولما كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقاً ذكر بعده ما يفيد سهولته بقوله تعالى: ﴿وما صبرك إلا بالله﴾ أي: الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم فذلك بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي. ثم ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي: في شدّة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس ﴿ولا تك في ضيق﴾ ولو قل كما لوّح إليه بتنوين التحقير ﴿مما يمكرون﴾ أي: من استمرار مكرهم بك ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ (الحجر، ٩٩)
وكأنك به وقد أتى فاصبر فإنّ الله معزك ومظهر دينك. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بنصبها. تنبيه: هذا من الكلام المقلوب لأنّ الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى: ولا يكن الضيق فيك إلا أنّ الفائدة في قوله تعالى: ﴿ولا تك في ضيق﴾ هو أنّ الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى. المرتبة الرابعة: قوله تعالى:
﴿إنّ الله﴾ أي: الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه ﴿مع الذين اتقوا﴾ أي: وجد منهم الخوف من الله تعالى واجتنبوا المعاصي ﴿والذين هم محسنون﴾ في أعمالهم والشفقة على خلقه، وهذا يجري مجرى
تكشف عورتها، فبفرض أنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن انتهى.
ولما رقاهن تعالى لهذا الأمر خفف عاقبة ما كن فيه من التشبيه بالإماء فأخبرهن تعالى بوسع كرمه وجوده بقوله تعالى: ﴿وكان الله﴾ أي: الذي له الكمال المطلق أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ أي: لما سلف منهن من ترك الستر فهو محاء للذنوب عيناً وأثراً ﴿رحيماً﴾ بهن إذ سترهن وبمن يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه قال البغوي: قال أنس: مرت بعمر جارية مقنعة فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع ويظهر أن عمر إنما فعل ذلك خوفاً من أن تلتبس الإماء بالحرائر فلا يعرف الحرائر فيعود الأمر كما كان.
ولما كان المأذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم حذرهم بقوله تعالى مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عليهم:
﴿لئن لم ينته﴾ عن الأذى ﴿المنافقون﴾ أي: الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام ﴿والذي في قلوبهم مرض﴾ أي: غل مقرب من النفاق حامل على المعاصي ﴿والمرجفون في المدينة﴾ المؤمنين أي: بالكذب وذلك أن ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله ﷺ يذيعون في الناس أنهم قد قتلوا أو هزموا ويقولون: قد أتاكم العدو ونحو ذلك، وأصل الرجفة: التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمى به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة ﴿لنغرينك بهم﴾ أي: لنسلطنك عليهم بالقتل والجلاء، أو بما يضطرهم إلى طلب الجلاء وقوله تعالى: ﴿ثم لا يجاورونك﴾ أي: يساكنونك ﴿فيها﴾ أي: المدينة عطف على لنغرينك وثم للدلالة على أن الجلاء ومفارقة رسول الله ﷺ أعظم ما يصيبهم ﴿إلا قليلاً﴾ أي: زماناً أو جواراً قليلاً، ثم يخرجون منها وقيل: نسلطك عليهم حتى تقتلهم وتخلى منهم المدينة.
وقوله تعالى:
﴿ملعونين﴾ أي: مبعودين عن الرحمة حال من فاعل يجاورونك قاله ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء ﴿أينما ثقفوا﴾ أي: وجدوا ﴿أخذوا وقتلوا﴾ ثم أكده بالمصدر بغضاً فيهم وإرهاباً لهم بقوله تعالى: ﴿تقتيلاً﴾ أي: الحكم فيهم هذا على وجه الأمر به.
وقوله تعالى:
﴿سنة الله﴾ أي: المحيط بجميع العظمة مصدر مؤكد أي: سن الله ذلك ﴿في الذين خلوا من قبل﴾ أي: في الأمم الماضية وهو أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا ﴿ولن تجد لسنة الله﴾ أي: طريقة الملك الأعظم ﴿تبديلاً﴾ أي: ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ، فإن النسخ يكون في الأقوال أما الأفعال إذا وقعت والأخبار فلا تنسخ.
ولما بين تعالى حالهم في الدنيا أنهم ملعونون ومهانون ويقتلون أراد أن يبين حالهم في الآخرة فذكرهم بالقيامة وذكر ما يكون لهم فيها بقوله:
﴿يسألك﴾ يا أشرف الخلق ﴿الناس﴾ أي: المشركون استهزاء منهم وتعنتاً وامتحاناً ﴿عن الساعة﴾ أي متى تكون في أي: وقت ﴿قل﴾ أي: لهم في جوابهم ﴿إنما علمها عند الله﴾ الذي أحاط علمه بجميع الأشياء ﴿وما يدريك﴾ أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها أنت لا تعرفه ﴿لعل الساعة﴾ أي: التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب ﴿تكون﴾ أي: توجد وتحدث على وجه مهوّل عجيب ﴿قريباً﴾ أي: في زمن قريب قال البقاعي: ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو عن تعيين وقتها قال البخاري
الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى: ﴿واستغفر﴾ أي: اسأل ﴿لهن الله﴾ أي: الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره ﴿إن الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي: بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً ﴿رحيم﴾ أي: بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلاً منه وإحساناً.
وروي أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى:
﴿يأيها الذين آمنوا لا تتولوا﴾ أي: لا تعالجوا أنفسكم أن توالوا ﴿قوماً﴾ أي: ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب أولى ﴿غضب الله﴾ أي: أوقع الملك الأعلى الغضب ﴿عليهم﴾ لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا، فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً ﴿قد يئسوا﴾ أي: تحققوا عدم الرجاء ﴿من الآخرة﴾ أي: من ثوابها مع إيقانهم بها لعنادهم النبي ﷺ مع علمهم أنه الرسول المبعوث في التوراة ﴿كما يئس الكفار من أصحاب القبور﴾ أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.
وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، إذ تعرض عليهم مقاعدهم من الجنة لو كانوا آمنوا، وما يصيرون إليه من النار فيتبين لهم قبح حالهم، وسوء منقلبهم. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الصف
مدنية في قول الأكثرين، وذكر النحاس عن ابن عباس أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف
﴿بسم الله﴾ الملك الأعظم الذي لا كفء له ﴿الرحمن﴾ الذي عم بفضله كل أحد من خلقه ﴿الرحيم﴾ الذي خص من شاء من عباده فهيأه لعبادته وأهله.
﴿سبح لله﴾ أي: أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم ﴿ما في السموات﴾ من جميع الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم ﴿وما في الأرض﴾ كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار. وقيل: اللام مزيدة، أي: نزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر.
فإن قيل: ما الحكمة في انه تعالى قال في بعض السور سبح لله بلفظ الماضي، وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع، وفي بعضها فسبح بلفظ الأمر؟.
أجيب: بأن الحكمة في ذلك تعليم العبد أن يسبح الله تعالى على الدوام كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدل عليه في الحال فإن قيل: هلا قيل سبح لله السموات والأرض وما فيهما، وهو أكثر مبالغة أجيب: بأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها ﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿العزيز﴾ أي: الغالب على غيره أي شىء كان ذلك الغير، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره ﴿الحكيم﴾ أي: الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. روى الدارمي


الصفحة التالية
Icon