صلى الله عليه وسلم بأطفالهم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: «لا» قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار.
ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله إلا إذا كان لغرض صحيح وطابق الواقع كقول سيدنا يوسف ﷺ ﴿اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم﴾ (يوسف، ٥٥)، وقوله ﷺ «إني أمين في السماء أمين في الأرض» حين قال له المنافقون: اعدل في القسمة إكذاباً لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه، ولكن شتان بين من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم ﴿بل الله﴾ الذي له صفات الكمال ﴿يزكي من يشاء﴾ أي: بماله من العلم التامّ والقدرة الشاملة والحكمة البالغة، وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلاً أو قولاً ﴿ولا يظلمون﴾ أي: ينقصون من أعمالهم ﴿فتيلاً﴾ أي: قدر ما يكون في شق النواة قاله عكرمة عن ابن عباس، فهو اسم لما في شق النواة، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة، والنقير اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة، وقيل: الفتيل من الفتل وهو ما يحصل بين الإصبعين من الوسخ عند الفتل.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنّ التزكية إنما هي إليه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿انظر﴾ متعجباً ﴿كيف يفترون﴾ أي: يتعمدون ﴿على الله﴾ الذي لا يخفى عليه شيء ولا بعجزه شيء ﴿الكذب﴾ من غير خوف منهم لذلك عاقبة ذلك ﴿وكفى به﴾ أي: بهذا الكذب ﴿إثماً مبيناً﴾ أي: بيناً واضحاً.
﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت﴾ وهما صنمان بمكة لقريش وذلك أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله ﷺ وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله ﷺ فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت؛ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا، ثم قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أمّيون لا نعلم فأينا أهدى طريقاً نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم فقال أبو سفيان: نحن ولاة البيت نسقي الحجاج الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد فأنزل الله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً﴾ أي: حظاً من الكتاب وهم كعب بن الأشرف وأصحابه يؤمنون بالجبت والطاغوت إي الصنمين ﴿ويقولون للذين كفروا﴾ وهم أبو سفيان وأصحابه ﴿هؤلاء﴾ أي: أنتم ﴿أهدى من الذين آمنوا﴾ وهم محمد وأصحابه ﴿سبيلاً﴾ أي: أقوم ديناً وأرشد طريقاً.
﴿أولئك الذين لعنهم الله﴾ أي: طردهم وأبعدهم من رحمته ﴿ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً﴾ أي: مانعاً يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها.
تنبيه: في ﴿هؤلاء أهدى﴾ همزتان من كلمتين الأولى مكسورة والثانية مفتوحة، قرأ نافع وابن كثير
في جواب سؤال عن ذلك:
*قد خصصت آية الأسرى بمتصف
... وصف الحياة كرطب الزرع والشجر
*فيابس مات لا تسبيح منه كذا
... وما زال عن موضع كالقطع للحجر
وقال إبراهيم النخعي: وإنّ من شيء جماد وحيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف، وقال مجاهد: كل الأشياء تسبح لله تعالى حيواناً كانت أو جماداً وتسبيحها سبحان الله وبحمده يدل على ذلك ماروي عن ابن مسعود كنا نعدّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فقلَّ الماء فقال ﷺ «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده ﷺ في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه ﷺ ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل». وعن جابر بن سمرة أنّ رسول الله ﷺ قال: «إنّ بمكة حجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت إني لأعرفه الآن». وعن ابن عمر أنه ﷺ كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ له المنبر تحوّل إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه وفي رواية فنزل فاحتضنه وساره بشيء ففي هذه الأحاديث دليل على أنّ الجماد يتكلم وأنه يسبح.
وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال حيث تدلّ على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك ويصير لها بمنزلة التسبيح. قال البغوي: والأول أصح وهو المنقول عن السلف. وقال ابن الخازن: القول الأول أصح لما دلت عليه الأحاديث وأنه منقول عن السلف. قال البغوي: واعلم أنّ لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه ﴿ولكن لا تفقهون﴾ أي: لا تفهمون ﴿تسبيحهم﴾ أي: لأنه ليس بلغتكم ﴿إنه كان حليماً غفوراً﴾. ولما ذكر سبحانه وتعالى إثبات الإلهية أتبعه بذكر تقرير النبوّة بقوله تعالى:
﴿وإذا قرأت القرآن﴾ أي: الذي لا يدانيه واعظ ولا يساويه مفهم وهو تبيان لكل شيء ﴿جعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً﴾ أي: يحجب قلوبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به. قال قتادة: هو الأكنة فالمستور بمعنى الساتر كقوله تعالى: ﴿كان وعده مأتياً﴾ (مريم، ٦١)
مفعول بمعنى فاعل وقيل: مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه وفسره بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت ﴿تبت يدا أبي لهب﴾ (المسد، ١)
جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبيّ ﷺ مع أبي بكر رضي الله عنه فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ لقد بلغني أنه هجاني. فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول: قد كنت جئت بهذا الحجر لأرض به رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله؟ قال: «لا ما يزل ملك بيني وبينها يسترني».
﴿وجعلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿على قلوبهم أكنة﴾ أي: أغطية كراهية ﴿أن يفقهوه﴾ أي: يفهموه أي: يفهموا القرآن حق فهمه ﴿وفي آذانهم وقراً﴾ أي: شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم، وعن أسماء كان رسول الله ﷺ جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد الرسول ﷺ وهي تقول: مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا. فقال أبو بكر: يا رسول الله معها
مفترى أو محمد ﷺ الذي قالوا: إنه ساحر ﴿وأنى﴾ أي: وكيف ومن أين ﴿لهم التناوش﴾ أي: تناول الإيمان تناولاً سهلاً ﴿من مكان بعيد﴾ أي: عن محله إذ هم في الآخرة ومحله في الدنيا، ولا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل وهذا تمثيل لحالهم في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا بحال من أراد أن يتناول شيئاً من علوه كما يتناوله الآخر من قدر ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه، فإن قيل: كيف قال تعالى: ﴿من مكان بعيد﴾ وقد قال تعالى في كثير من المواضع أن الآخرة من الدنيا قريب، وسمى الله تعالى الساعة قريبة فقال ﴿اقتربت الساعة﴾ (القمر: ١)
﴿اقترب للناس حسابهم﴾ (الأنبياء: ١)
﴿لعل الساعة قريب﴾ (الشورى: ١٧)
أجيب: بأن الماضي كالأمس الدابر وهو من أبعد ما يكون إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنون فإنه آت فيوم القيامة الدنيا بعيدة منه لمضيها، ويوم القيامة في الدنيا قريب لإتيانه، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي بعد الألف بهمزة مضمومة والباقون بعد الألف بواو مضمومة فمعناه على هذا: كيف لهم تناول ما بعد عنهم وهو الإيمان والتوبة وقد كان قريباً في الدنيا فضيعوه، وأما من همز فقيل معناه هذا أيضاً.
وقيل: التناؤش بالهمز من التنؤش الذي هو حركة في إبطاء يقال: جاء منئشاً أي: مبطئاً متأخراً والمعنى: من أين لهم الحركة فيما لا حيلة لهم فيه قال ابن عباس: يسألون الرد فيقال: وأنى لهم الرد إلى الدنيا من مكان بعيد أي: من الآخرة إلى الدنيا وأمال أنى محضة حمزة والكسائي، وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح.
﴿وقد﴾ أي: كيف لهم ذلك والحال أنهم قد ﴿كفروا به﴾ أي: بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به محمد ﷺ أو القرآن أو البعث ﴿من قبل﴾ أي: في دار العمل ﴿و﴾ الحال أنهم حال كفرهم ﴿يقذفون﴾ أي: يرمون ﴿بالغيب﴾ ويتكلمون بما يظهر لهم في الرسول ﷺ من المطاعن وهو قولهم: ساحر وشاعر وكاهن، وفي القرآن سحر شعر كهانة وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار ﴿من مكان بعيد﴾ أي: ما غاب علمه عنهم غيبة بعيدة وهذا تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئاً ولا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه.
﴿وحيل بينهم وبين ما يشتهون﴾ أي: من نفع الإيمان يومئذ والنجاة من النار والفوز بالجنة، أو من الرد إلى الدنيا كما حكى عنهم ﴿أرجعنا نعمل صالحاً﴾، وقرأ ابن عامر والكسائي بضم الحاء وهو المسمى بالإشمام والباقون بكسرها ﴿كما فعل﴾ أي: بأيسر وجه ﴿بأشياعهم﴾ أي: أشباهم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم ﴿من قبل﴾ أي: قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم بل كان كلما كذب أمة رسولها أخذناها فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا فلم يقبل منهم ذلك ولا نفعهم شيئاً لا بالكف عن إهلاكهم ولا لإدراكهم شيئاً من الخير بعد إهلاكهم ﴿إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾ (ق: ٣٧)
ثم علل عدم الوصول إلى قصدهم بقوله تعالى: مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم ﴿إنهم كانوا﴾ أي: في دار القبول ﴿في شك﴾ أي: في جميع ما تخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء والبعث وغير ذلك ﴿مريب﴾ أي: موقع في الريبة فهو بليغ
راجع إلى الغفران.
﴿عالم الغيب﴾ وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة، ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره ﴿والشهادة﴾ وهو كل ما ظهر وكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه موجب للمؤمن ترك ظاهر الإثم وباطنه، وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله تعالى كأنه يراه ﴿العزيز﴾ أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ أي: بالغ الحكمة التي يعجز عن إدراكها الخلائق.
وقال ابن الأنباري: الحكيم: هو المحكم لخلق الأشياء، فصرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله تعالى: ﴿الم تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ (لقمان: ١ ـ ٢)
معناه: المحكم فصرف من مفعل إلى فعيل، وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة» حديث موضوع.
سورة الطلاق
مدنية وهي إحدى عشرة آية، وقيل: اثنتا عشرة آية، وقيل: ثلاث عشرةآية ومائتان وتسع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال ﴿الرحمن﴾ الذي عم برحمته والنوال ﴿الرحيم﴾ الذي خص بتمام النعمة ذوي الهمم العوال
وقرأ: ﴿يا أيها النبي﴾ نافع بالهمزة وسهل الهمزة من إذا وأبدلها أيضاً واواً. خصه ﷺ بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمته واعتباراً لرآسته، وإنه لسان قومه والذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكم كلهم وساداً مسد جميعهم.
وقيل: إنه على إضمار قول، أي يا أيها النبي قل لأمتك ﴿إذا طلقتم النساء﴾ أي: أردتم طلاق هذا النوع واحدة منهن فأكثر. وقيل: إنه خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه كقوله: إذا حذفته رجلها، أي: ويدها، وكقوله تعالى: ﴿سرابيل تقيكم الحر﴾ (النحل: ٨١)
وقيل: إنه خطاب للنبي ﷺ خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله:
*فإن شئت أحرمت النساء سواكم | وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولابرداً* |
وروى ابن ماجه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ طلق حفصة ثم راجعها، وعن أنس قال: طلق رسول الله ﷺ حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها النبي إذا طلقتم النساء﴾ وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة، ذكره الماوردي، والقشيري. وزاد القشيري ونزل خروجها إلى أهلها قوله تعالى: ﴿لا تخرجوهن من بيوتهن﴾.
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه