ليقوم بذلك على الفاعل الحجة في مجاري عاداتكم ﴿فمن اعتدى﴾ أي: فاصطاد ﴿بعد ذلك﴾ أي: الابتلاء بالصيد ﴿فله عذاب أليم﴾ أي: مؤلم وإنّ من لا يملك نفسه في مثل ذلك ولا يراعي حكم الله فيه فكيف به فيما تكون فيه النفس أميَل إليه وأحرص عليه.
﴿يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم﴾ أي: محرمون بنسك أو في الحرم والنهي عما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفاً وأمّا غير المؤكول فيحل قتله فإنه لا حظ للنفس في قتله إلا الإراحة من أذاه ويؤيده قوله ﷺ «خمس يقتلن في الحل والحرم: الحداء والغراب والعقرب والفأرة والكلب» وفي رواية أخرى الحية بدل العقرب مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ وإنما ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم فإنّ مذبوح المحرم ميتة ﴿ومن قتله منكم متعمداً﴾ أي: قاصداً للصيد ذاكراً للاحرام إن كان محرماً والحرم إن كان فيه عالماً بالتحريم وذكر العمد ليس لتقييد وجوب الجزاء فإنّ إتلاف العامد والمخطىء واحد في إيجاب الضمان بل لقوله تعالى: ﴿ومن عاد فينتقم الله منه﴾ ولأنّ الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو قتادة برمحه فقتله فنزلت، وعن الزهريّ نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ، وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئاً باشتراط العمد في الآية، وعن الحسن روايتان وقوله تعالى: ﴿فجزاء﴾ منوّن في قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ وما بعده مرفوع أي: فعليه جزاء هو ﴿مثل ما قتل من النعم﴾ أي: شبهه في الخلقة لا التساوي في القيمة، وقرأ الباقون بغير تنوين في جزاء وخفض لام مثل ﴿يحكم به﴾ أي: المثل رجلان ﴿ذوا عدل منكم﴾ أي: لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به فيحكمان به وقد ذهب إلى إيجاب المثل جماعة من الصحابة حكموا في بلدان مختلفة بالمثل من النعم فحكم ابن عباس وعمر وعليّ في النعامة ببدنة وهي لا تساوي بدنة وعمر في الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة، ابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنه يشبهها في العب، والحمام كل ما عبّ وهدر من الطير كالفواخت والقمري والدبسيّ فدلّ ذلك على أنهم ينظرون إلى ما يقرب من
الصيد شبهاً من حيث الخلقة لا من حيث القيمة.
وقوله: ﴿هدياً﴾ حال من جزاء وقوله تعالى: ﴿بالغ الكعبة﴾ أي: يبلغ به الحرم فيذبح فيه ويتصدّق به على مساكينه ولا يجوز أن يذبح حيث كان وهو نعت لما قبله وإن أضيف إلى معرفة لأنّ إضافته لفظية لا تفيد تعريفاً فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراف فعليه قيمته ﴿أو﴾ عليه ﴿كفارة طعام مساكين﴾ في الحرم من غالب قوت البلد مما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مدّ، وقرأ نافع وابن عامر كفارة بغير تنوين وخفض ميم طعام والباقون بالتنوين ورفع ميم طعام أي: هي طعام ﴿أو﴾ عليه ﴿عدل﴾ أي: مثل ﴿ذلك﴾ أي: الطعام ﴿صياماً﴾ يصومه في كل موضع يتيسر له عن كلّ مدّ يوماً، فأو للتخيير لأنه الأصل فيها، قال البقاعي: والقول بأنها للترتيب يحتاج إلى دليل.
وقوله تعالى: ﴿ليذوق وبال أمره﴾ متعلق بمحذوف أي: فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى: ﴿فأخذناه أخذاً وبيلاً﴾ (المزمل، ١٦) أي:
قوله: ﴿إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني﴾ وأيضاً مثل الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله تعالى أجيب: بأن تلك الحالة كانت حالة افتقار واضطرار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى عليه السلام ما قاله فلا جرم ﴿قال﴾ موسى: ﴿لو شئت لاتخذت عليه أجراً﴾ أي: لطلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف التاء بعد اللام وكسر الخاء، وأظهر ابن كثير الذال عند التاء على أصلها، وأدغمها أبو عمرو والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء، وأظهر حفص الذال على أصله وأدغمها الباقون.
ولما كان كلام موسى هذا متضمناً للسؤال.
﴿قال﴾ له الخضر: ﴿هذا﴾ أي: هذا الإنكار على ترك الأجر ﴿فراق بيني وبينك﴾ وقيل: إن موسى عليه السلام لما شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر حصل به الفراق حيث قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فلما ذكر هذا السؤال فارقه وهذا فراق بيني وبينك أي: هذا الفراق المعهود الموعود فإن قيل: كيف ساغ إضافة بين إلى غير متعدّد؟ أجيب: بأنّ مسوّغ ذلك تكريره بالعطف بالواو، ألا ترى أنك لو اقتصرت على قولك المال بيني لم يكن كلاماً حتى تقول: بيننا أو بيني وبين فلان ثم قال له الخضر: ﴿سأنبئك﴾ أي: سأخبرك يا موسى قبل فراقي لك ﴿بتأويل﴾ أي: بتفسير ﴿ما لم تستطع عليه صبراً﴾ لأن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبنية على الظواهر كما قال ﷺ «نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» والخضر ما كانت أموره وأحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الخفية الواقعة في نفس الأمر، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يحرم التصرّف فيها، والخضر تصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن الإقدام على خرق السفينة وقتل الإنسان من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف محرّم، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل للتعب والمشقة من غير سبب ظاهر، ثم أخذ الخضر في تأويل ذلك مبتدئاً بالمسألة الأولى بقوله:
﴿أما السفينة﴾ أي: التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها ﴿فكانت لمساكين﴾ عشرة إخوة خمسة زمني وخمسة ﴿يعملون في البحر﴾ أي: يؤاجرون ويكتسبون، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن حال الفقير أشدّ في الحاجة والضرر من حال المسكين لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة ﴿فأردت أن أعيبها﴾ أي: أن أجعلها ذات عيب بأن تفوت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكلف أهلها لوحاً أو لوحين يسدونها بذلك أخف عليهم من أن تفوتهم منفعتها بالكلية كما يعلم من قوله: ﴿وكان وراءهم﴾ أي: أمامهم كقوله تعالى: ﴿ومن ورائهم برزخ﴾ (المؤمنين، ١٠٠)
وقيل خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه ﴿ملك﴾ كان كافراً واسمه الجلندي، وقال محمد بن إسحاق اسمه سولة بن خليد الأزدي، وقيل: اسمه هدد بن بدد ﴿يأخذ كل سفينة﴾ أي: صالحة وحذف التقييد بذلك للعلم به ﴿غصباً﴾ من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به فإذا مرّت به تركها لعيبها فإذا جاوزته أصلحوها فانتفعوا بها قيل: سدوها بقارورة وقيل: بالفار فإن قيل: قوله:
نسباً فهو عند الله مخلص من الشرك، وقوله تعالى:
﴿فإنكم﴾ أي: يا أهل مكة ﴿وما تعبدون﴾ أي: من الأصنام عود إلى خطابهم؛ لأنه لما ذكر الدلائل الدالة على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه به على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله تعالى في حقه بالعذاب والوقوع في النار، كما قال تعالى:
﴿ما أنتم عليه﴾ أي: على معبودكم، وعليه متعلق بقوله: ﴿بفاتنين﴾ أي: بمضلين أحداً من الناس.
﴿إلا من هو صال الجحيم﴾ أي: إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة.
تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر هو الله حيث قضاه وقدره، ثم إن جبريل عليه السلام أخبر النبي ﷺ بأن الملائكة ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار بقوله:
﴿وما منا﴾ أي: معشر الملائكة ملك ﴿إلا له مقام معلوم﴾ في السموات يعبد الله تعالى فيه لا يتجاوزه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما في السموات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي ويسبح، وروى أبو ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً» قيل: الأطيط أصوات الأقتاب وقيل: أصوات الإبل وحسها، ومعنى الحديث: ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن ثم أطيط، وقال السدي: إلا له مقام معلوم في القرب والمشاهدة.
﴿وإنا لنحن الصافون﴾ أي: أقدامنا في الصلاة، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض.
﴿وإنا لنحن المسبحون﴾ أي: المنزهون الله تعالى عما لا يليق به، وقيل: هذا حكاية كلام النبي ﷺ والمؤمنين، والمعنى: وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله تعالى في القيامة وإنا لنحن الصافون في الصلاة والمنزهون له تعالى عن السوء، ثم إنه تعالى أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال:
﴿وإن كانوا﴾ أي: كفار مكة، وإن مخففة من الثقيلة ﴿ليقولون لو أن عندنا ذكراً﴾ أي: كتاباً ﴿من الأولين﴾ أي: من كتب الأمم الماضين.
﴿لكنا عباد الله المخلصين﴾ أي: لأخلصنا العبادة له وما كذبنا ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والمهيمن عليها وهو القرآن العظيم.
﴿فكفروا به فسوف يعلمون﴾ عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم، ولما هددهم بذلك أردفه بما يقوي قلب النبي ﷺ بقوله تعالى:
﴿ولقد سبقت كلمتنا﴾ أي: بالنصر ﴿لعبادنا المرسلين﴾ وهي قوله تعالى ﴿لأغلبن أنا ورسلي﴾ (المجادلة: ٢١)
أو هي قوله تعالى:
﴿إنهم لهم المنصورون﴾.
﴿وإن جندنا﴾ أي: المؤمنين ﴿لهم الغالبون﴾ أي: الكفار، والنصرة والغلبة قد تكون بالحجة وقد تكون بالدولة والاستيلاء، وقد تكون بالدوام والثبات، فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب في الآخرة، فالحكم في ذلك للأغلب في الدنيا فلا ينافي ذلك قتل بعض الأنبياء عليهم السلام وهزم كثير من المؤمنين، وإنما سمى ذلك كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد.
﴿فتول عنهم﴾ أي: أعرض عن كفار مكة، واختلف في قوله تعالى: ﴿حتى حين﴾ فقال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يوم بدر، وقال السدي: حتى يأمرك الله تعالى بالقتال، وقيل: إلى أن يأتيهم عذاب الله، وقيل: إلى فتح مكة، وقال
تكراراً؟ أجيب: بأنّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، فالمعنى ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلب. ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ خص نفسه أوّلاً بالدعاء، ثم من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمّة محمد ﷺ وقيل: من قومه والأوّل أولى وأظهر.
ثم ختم الكلام مرّة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال: ﴿ولا تزد الظالمين﴾ أي: العريقين في الظلم في حال من الأحوال ﴿إلا تباراً﴾ أي: هلاكاً مدمراً والمراد بالظالمين الكافرون، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. وتباراً مفعول ثان والاستثناء مفرغ. وقيل: الهلاك الخسران.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ ﷺ «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» حديث موضوع.
سورة الجن
وتسمى سورة قل أوحي مكية
وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمسوثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ المحيط بالكمال ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ برحمته الناس بالإرسال ﴿الرحيم﴾ الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال.
ولما كان نوح عليه السلام أوّل رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان نبينا ﷺ خاتم النبيين فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم ناسب ذكره بعد نوح، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: يا أشرف الرسل للناس ﴿أوحي إليّ﴾ وقال ابن عباس: قل يا محمد لأمّتك: أوحي إليّ على لسان جبريل ﴿أنه استمع نفر من الجنّ﴾ والنفر الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة قال البغوي: وكانوا تسعة من جنّ نصيبين، وقيل: كانوا سبعة وفي هذه العبارة دليل على أنه ﷺ ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو وأصحابه بنخلة قاصدين سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء». وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره؟ قال أبو حيان: المشهور أنه هو. وقيل: غيره، والجنّ الذين أتوه جنّ نصيبين والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى، والسورة التي استمعوها قال عكرمة العلق، وقيل: الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم.
وعن ابن مسعود أنه ﷺ قال: «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ، فمن يذهب؟ فسكتوا ثم قال الثانية، فسكتوا ثم قال الثالثة، فقلت: أنا أذهب معك يا رسول الله. قال: فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطاً فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه