وبالمكتسب أعمال الجوارح فهو كما يقال: هذا المال كسب فلان أنه مكتسبه فلا يحمل على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه.
﴿وما تأتيهم﴾ أي: الكفار ﴿من آية من آيات ربهم﴾ من الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي: ما يظهر لكم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن ﴿إلا كانوا عنها معرضين﴾ أي: تاركين لها وبها مكذبين.
﴿فقد كذبوا بالحق لما جاءهم﴾ أي: بالقرآن وبمحمد ﷺ وبما أتى به من المعجزات ﴿فسوف يأتيهم أنباء﴾ أي: عواقب ﴿ما كانوا به يستهزؤن﴾ بنزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.
﴿ألم يروا﴾ أي: في أسفارهم إلى الشام وغيرها ﴿كم﴾ خبرية بمعنى كثيراً ﴿أهلكنا من قبلهم من قرن﴾ أي: أمّة من الأمم الماضية، وعلى هذا القرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدّة من الزمان قيل: إنها عشرة أعوام، وقيل: عشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: أربعون، وقيل: خمسون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون، وقيل: مائة.
لما روي أنّ النبيّ ﷺ قال لعبد الله بن بشر المازني: «تعيش قرناً» فعاش مائة سنة وقيل: مائة وعشرون فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن ﴿مكناهم في الأرض﴾ أي: جعلنا لهم فيها مكاناً بالقوّة والسعة وقررناهم فيها ﴿ما لم نمكن لكم﴾ أي: ما لم نجعل لكم من السعة والقوّة فيه التفات عن الغيبة، والمعنى: لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثموداً وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا ﴿وأرسلنا السماء﴾ هي المطر ﴿عليهم مدراراً﴾ أي: متتابعاً ﴿وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم﴾ أي: تحت مساكنهم ﴿فأهلكناهم بذنوبهم﴾ أي: بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء فلم يغن ذلك عنهم شيئاً ﴿وأنشأنا﴾ أي: أحدثنا ﴿من بعدهم قرناً آخرين﴾ بدلاً منهم.
فإن قيل: ما فائدة ذكر أنشأنا قرناً آخرين بعدهم؟ أجيب: بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم.
ونزل لما قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ﴿ولو نزلنا عليك كتاباً﴾ أي: مكتوباً ﴿في قرطاس﴾ أي: رق كما اقترحوه ﴿فلمسوه بأيديهم﴾ أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك ﴿لقال الذين كفروا أن﴾ أي: ما ﴿هذا إلا سحر مبين﴾ أي: تعنتاً وعناداً كما قالوا في انشقاق القمر.
﴿وقالوا لولا﴾ أي: هلا ﴿أنزل عليه﴾ أي: محمد ﷺ ﴿ملك﴾ يكلمنا أنه نبي كقوله تعالى: ﴿لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً﴾ (الفرقان، ٧) ﴿ولو أنزلنا ملكاً بحيث﴾ عاينوه كما اقترحوا فلم يؤمنوا ﴿لقضي الأمر﴾ أي: لحق إهلاكهم فإنّ سنة الله تعالى جرت فيمن قبلهم أنهم إذا جاءهم مقترحهم فلم يؤمنوا به يهلكهم ﴿ثم لا ينظرون﴾ أي: لا يمهلون لتوبة أو معذرة.
{س٦ش٩/ش١٨ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُ؟ وَلَلَبَسْنَا
وقال عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار ﴿نزلاً﴾ أي: منزلاً كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً وقوله تعالى:
﴿خالدين فيها﴾ حال مقدرة ﴿لا يبغون﴾ أي: لا يريدون أدنى إرادة ﴿عنها حولاً﴾ أي: تحويلاً إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
﴿قل﴾ يا أشرف الخلق للخلق ﴿لو كان البحر﴾ أي: ماؤه على عظمته عندكم ﴿مداداً﴾ وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج ﴿لكلمات﴾ أي: لكتب كلمات ﴿ربي﴾ أي: المحسن إليّ ﴿لنفد﴾ أي: فني مع الضعف فناء لا تدارك له ﴿البحر﴾ لأنه جسم متناه ﴿قبل أن تنفذ﴾ أي: تفنى وتفرغ ﴿كلمات ربي﴾ لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى: ﴿ولو جئنا بمثله﴾ أي: بمثل البحر الموجود ﴿مدداً﴾ أي: زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى: ﴿ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله﴾ (لقمان، ٢٧)، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس: قالت اليهود: تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً﴾ (النبوة، ٢٦٩)، ثم تقول: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي: وسبب نزولها أن اليهود قالوا: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وتقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً انتهى. وقال في «الكشاف» يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله، وقيل: لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، قالت اليهود: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية. ولما كانوا ربما قالوا: مالك لا تحدّث من
هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال الله تعالى:
﴿قل﴾ يا خير الخلق لهم ﴿إنما أنا بشر﴾ في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب ﴿مثلكم﴾ أي: لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن ﴿يوحى إليّ﴾ أي: من الله تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي ﴿أنما إلهكم﴾ الذي يجب أن يعبد ﴿إله واحد﴾ لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله ﴿فمن﴾ أي: فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من ﴿كان يرجو لقاء ربه﴾ أي: يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً قال الشاعر:
*فلا كل ما ترجو من الخير كائن
... ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين ﴿فليعمل عملاً﴾ ولو قليلاً ﴿صالحاً﴾ يرتضيه الله ﴿ولا يشرك﴾ أي: وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء ﴿بعبادة ربه أحداً﴾ فإذا عمل ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول الله ﷺ إني لأعمل
إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة. والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل الضرر الكثير لوجدان المنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القول ثبت القول بوجود حياة بعد هذه الحياة الدنيا وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة.
تنبيه: يجوز في باطلاً أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أو حالاً من ضميره أي: خلقاً باطلاً وأن يكون حالاً من فاعل خلقنا أي: مبطلين أو ذوي باطل وأن يكون مفعولاً من أجله أي: للباطل وهو العبث ﴿ذلك﴾ أي: خلق ما ذكر لا لشيء ﴿ظن الذين كفروا﴾ أي: أهل مكة هم الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء وأنه لا بعث ولا حساب ﴿فويل﴾ أي: هلاك عظيم بسبب هذا الظن أو واد في جهنم ﴿للذين كفروا﴾ أي: مطلقاً بهذا الظن وغيره من أي شرك كان ﴿من النار﴾ لأن من أنكر الحشر والنشر كان شاكاً في حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض.
ونزل لما قال كفار مكة للمؤمنين إنا نعطى في الآخرة مثل ما تعطون.
﴿أم نجعل﴾ أي: على عظمتنا ﴿الذين آمنوا﴾ أي: امتثالاً لأوامرنا ﴿وعملوا الصالحات﴾ تحقيقاً لإيمانهم ﴿كالمفسدين﴾ أي: المطبوعين على الفساد والراسخين فيه ﴿في الأرض﴾ أي: في السفر وغيره لم نجعلهم مثلهم وأم منقطعة والاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلاً ليدل على نفيه وكذا التي في قوله تعالى: ﴿أم نجعل المتقين كالفجار﴾ كرر الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية، أولاً بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم وقوله تعالى:
﴿كتاب﴾ خبر مبتدأ مضمر أي: هذا كتاب ثم وصفه بقوله تعالى: ﴿أنزلناه﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿إليك﴾ يا أشرف الخلق ﴿مبارك﴾ أي: كثير خيره ونفعه، وقوله تعالى: ﴿ليدبروا﴾ أصله ليتدبروا أدغمت التاء في الدال ﴿آياته﴾ أي: ليتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة فيأتمروا بأوامره ومناهيه فيؤمنوا ﴿وليتذكر﴾ أي: وليتعظ به ﴿أولو الألباب﴾ أي: أصحاب العقول.
القصة الثانية: قصة سليمان عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿ووهبنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿لداود سليمان﴾ ابنه فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنيا وعلماً وحكمة وعظمة ورحمة، والمخصوص بالمدح في قوله تعالى: ﴿نعم العبد﴾ محذوف أي: سليمان، وقيل: داود ﴿إنه أواب﴾ أي: رجاع إلى التسبيح والذكر في جميع الأوقات.
﴿إذ﴾ أي: اذكر إذ ﴿عرض عليه﴾ أي: سليمان، وقوله تعالى: ﴿بالعشي﴾ وهو ما بعد الزوال إلى الغروب، وقوله تعالى: ﴿الصافنات﴾ أي: الخيل العربية الخالصة جمع صافنة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وهي علامة الفراهة فيه وأنشد:

*ألف الصفون فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا*
وقيل: هو الذي يجمع يديه ويسويهما، وقيل: هو القائم مطلقاً أي: سواء كان من الخيل أم من غيرها قاله القتيبي واستدل بقوله ﷺ «من سره أن تقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار» أي: يديمون له القيام وجاء الحديث قمنا صفوناً أي: صافين أقدامنا،
أي: الله سبحانه وتعالى ﴿كل شيء﴾ أي: من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك ﴿عدداً﴾ ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ وقال ابن جبير رضي الله عنه: ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته.
تنبيه: هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات.
و ﴿عدداً﴾ يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى: ﴿وفجرنا الأرض عيوناً﴾ (القمر: ١٢)
أي: عيون الأرض، وأن يكون منصوباً على الحال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً وأن يكون مصدراً في معنى الإحصاء.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة الجنّ كان له بعدد كل جني صدّق محمداً وكذب به عتق رقبة» حديث موضوع.
سورة المزمل
مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا آيتين منها ﴿واصبر على ما يقولون﴾ والتي تليها ذكره الماوردي، وقال الثعلبي: ﴿إن ربك يعلم أنك تقوم﴾ إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة.
وهي تسع عشرة أو عشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي من توكل عليه كفاه في جميع الأحوال ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بنعمة الإيجاد المهتدي والضال ﴿الرحيم﴾ الذي خص حزبه بالسداد في الأفعال والأقوال. وقوله تعالى:
﴿يا أيها المزمّل﴾ أصله: المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، يقال: ازمّل يتزمّل تزمّلاً، فإذا أريد الإدغام اجتلبت همزة الوصل، وهذا الخطاب للنبيّ ﷺ وفيه ثلاثة أقوال: الأول: قال عكرمة: يا أيها المزمّل بالنبوّة والملتزم للرسالة، وعنه: يا أيها الذي ازمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر. والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا أيها المزمّل بالقرآن. والثالث: قال قتادة رضي الله عنه: يا أيها المزمّل بثيابه. قال النخعي: كان متزملاً بقطيفة عائشة بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً قالت عائشة رضي الله عنها: «كان نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على النبيّ ﷺ وهو يصلي والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزى ولا إبريسماً ولا صوفاً كان سداه شعراً ولحمته وبراً». ذكره الثعلبي، ولحمة الثوب بفتح اللام وضمها والفتح أفصح ولحمة النسب كذلك والضم أفصح ولحمة البازي بالضم لا غير لأنها كاللقمة.
قال القرطبي: وهذا القول من عائشة رضي الله عنها يدل على أنّ السورة مدنية، فإن النبيّ ﷺ لم يبن بها إلا بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح. وقال الضحاك: تزمل لمنامه وقيل: بلغه من المشركين قول سوء فيه فاشتدّ عليه فتزمل وتدثر، فنزلت
﴿يا أيها المزمّل﴾ و ﴿يا أيها المدثر﴾ (المدثر: ١)
وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحي إليه «فإنه ﷺ لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة رضي الله عنها زوجته يرجف فؤاده، فقال: زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي» أي: أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشيطان أو أن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس الملك، وكان ﷺ يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له، وكانت وزيرة صدق


الصفحة التالية
Icon