بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلتقيان فتخرجه ثم تنشره فتبسطه في السماء كما يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ﴿لبلد ميت﴾ لا نبات فيه أي: لإحيائه.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بتخفيف الياء والباقون بالتشديد ﴿فأنزلنا به﴾ أي: بالبلد أو السحاب ﴿الماء فأخرجنا به﴾ أي: بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سبباً لإخراج الثمرات ﴿من كل الثمرات﴾ أي: من كل أنواعها، قال الأزهري: قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى: البلد هو كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد ﴿كذلك﴾ أي: مثل هذا الإخراج ﴿نخرج الموتى﴾ أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودرس آثارهم ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي: لكي تعتبروا وتتذكروا والخطاب لمنكري البعث يقول: إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأوراق والثمار ثم إن الله أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها. قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله تعالى عليهم مطراً كمني الرجال من ماء تحت العرش فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون: ﴿يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا﴾ (يس، ٥٢)
وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
﴿والبلد الطيب﴾ أي: والأرض الكريمة التربة السهلة السمحة ﴿يخرج نباته بإذن ربه﴾ أي: بمشيئته وتيسيره عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنها وقعت في مقابلة ﴿والذي خبث﴾ أي: والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة ﴿لا يخرج﴾ نباته ﴿إلا نكداً﴾ أي: عسراً بمشقة وكلفة قال المفسرون: وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الطيبة وشبه نزول القرآن على قلبه بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والأثمار فكذلك المؤمن إذا سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهر منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدّقه ولا يزيده إلا عتواً وكفراً وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة، وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لآدم وذريته كلهم منهم طيب ومنهم خبيث ﴿كذلك﴾ أي: كما بينا ما ذكر ﴿نصرّف﴾ أي: نبين ﴿الآيات﴾ الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة ﴿لقوم يشكرون﴾ نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بسماع القرآن.
ولما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة دلائل آثار قدرته الدالة على توحيده وربوبيته وأقام الأدلة القاطعة على صحة البعث بعد الموت أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما جرى لهم مع أممهم فقال:
﴿لقد﴾ جواب قسم محذوف تقديره: والله لقد ﴿أرسلنا نوحاً﴾ عليه السلام ﴿إلى قومه﴾ ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة
رأيته ﴿لا مساس﴾ أي: لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحداً أو مسه أحد حما جميعاً عاقبه الله تعالى بذلك، وكان إذا لقي أحداً يقول لا مساس؛ أي: لا تقربني ولا تمسني، وقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحداً منهم حما جميعاً في ذلك الوقت ﴿وإن لك﴾ بعد الممات ﴿موعداً﴾ للثواب إن تبت، والعقاب إن أبيت ﴿لن تخلقه﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام أي: لن تغيب عنه، والباقون بفتحها أي: بل تبعث إليه، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل، فقال: ﴿وانظر إلى إلهك﴾ أي: بزعمك ﴿الذي ظلت﴾ أي: دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفاً ﴿عليه عاكفاً﴾ أي: مقيماً تعبده ﴿لنحرّقنّه﴾ أي: بالنار وبالمبرد قال البقاعي: كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان، فهان على المبارد انتهى، ﴿ثم لننسفنه﴾ أي: لنذرينه إذا صار سحالة ﴿في اليمّ﴾ أي: في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم، فيحميها في نار جهنم، ويكويهم بها، ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد، فقال: ﴿نسفاً﴾ قال الجلال المحلي، وفعل موسى عليه السلام بعد ذبحه ما ذكره انتهى، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد؛ قال الرازي: ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها، ولما أراهم بطلان ما هم
عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر، فقال:
﴿إنما إلهكم الله﴾ أي: الجامع لصفات الكمال، ثم كشف المراد من ذلك، وحققه بقوله: ﴿الذي لا إله إلا هو﴾ أي: لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره؛ لأنه ﴿وسع كل شيء﴾ وقوله: ﴿علماً﴾ تمييز محمول على الفاعل، أي: أحاط علمه بكل شيء، فكل شيء إليه مفتقر، وهو غني عن كل شيء، وأما العجل الذي عبدوه، فلا يصلح للإلهية بوجه، ولا في عبادته شيء من حق، ولما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً، ثم مع السامري ثانياً على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع، والمثال الرفيع، فقيل: نعم
﴿كذلك﴾ أي: مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه ﴿نقص عليك من أنباء﴾ أي: أخبار ﴿ما قد سبق﴾ من الأمم زيادة في علمك وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك، وتكثيراً لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر ﴿وقد أتيناك﴾ أي: أعطيناك تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك ﴿من لدنا﴾ أي: من عندنا ﴿ذكراً﴾ أي: كتاباً هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، وثانيها: أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة، وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك، وسمى الله تعالى كل كتاب
بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً ﴿عند الله﴾ أي: الملك الأعظم ﴿و﴾ كبر مقتاً أيضاً ﴿عند الذين آمنوا﴾ أي: الذين هم خاصته، ودلت الآية على أنه يجوز وصفه تعالى بأنه مقت بعض عباده إلا أنها صفة واجبة التأويل في حق الله تعالى كالغضب والحياء والعجب وقوله تعالى: ﴿كذلك﴾ أي: ومثل هذا الطبع العظيم ﴿يطبع الله﴾ أي: الذي له جميع العظمة يدل على أن الكل من عند الله كما هو مذهب أهل السنة ﴿على كل قلب متكبر﴾ أي: متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله ﴿جبار﴾ أي: ظاهر الكبر قويه قهار، وقال مقاتل: الفرق بين المتكبر والجبار أن المتكبر عن قبول التوحيد والجبار في غير الحق، قال الرازي: كما أن السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبار كالمضاد للشفقة على خلق الله، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان: بتنوين الباء الموحدة، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني أو على حذف مضاف أي: على كل ذي قلب متكبر جبار فهي حينئذ مساوية لقراءة الباقين بغير تنوين ثم إن فرعون عليه اللعنة أعرض عن جواب المؤمن لأنه لم يجد فيه
مطعناً.
﴿وقال فرعون يا هامان﴾ وهو وزيره ﴿ابن﴾ وعرفه بشدة اهتمامه بالإضافة إليه في قوله ﴿لي صرحاً﴾ أي: بناء مكشوفاً عالياً لا يخفى على الناظر وإن بعد، من صرح الشيء إذا ظهر ﴿لعلي أبلغ الأسباب﴾ أي: التي لا أسباب غيرها لعظمها، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي.
ولما كان بلوغها أمراً عظيماً أورده على نمط مشوق إليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنه ليتشوف السامع إلى بنائه بقوله: ﴿أسباب السموات﴾ أي: الأمور الموصلة إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، وقرأ الكوفيون بسكون الياء والباقون بالفتح وقرأ ﴿فاطلع﴾ حفص بنصب العين وفيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جواب الأمر في قوله ابن لي فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله:
*يا ناق سيري عنقاً فسيحاً | إلى سليمان فنستريحا* |
ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها «لم يزل رسول الله ﷺ يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت» فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها، والمعنى: أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
﴿إلى ربك﴾ أي: المحسن إليك بأنواع النعم ﴿منتهاها﴾ أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحداً من خلقه كقوله تعالى: ﴿إنما علمها عند ربي﴾ (الأعراف: ١٨٧)
وقوله تعالى: ﴿إنّ الله عنده علم الساعة﴾ (لقمان: ٣٤)
قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألونك، بيانه: ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: الوقف على قوله تعالى: ﴿فيم﴾ وهو خبر مبتدأ مضمر أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدأ بقوله تعالى: ﴿أنت من ذكراها﴾ أي: أرسلناك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في فم الساعة ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
﴿إنما أنت﴾ أي: يا أشرف الرسل ﴿منذر﴾ أي: إنما بعثت لإنذار ﴿من يخشاها﴾ أي: لتخويف من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى؛ لأنه المنتفع به، أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها وإن كنت منذر الكل مكلف.
﴿كأنهم﴾ قال البغوي: يعني: كفار قريش ﴿يوم يرونها﴾ أي: يعلمون قيام الساعة علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور مع علمهم بما مرّ من زمانهم وما أتى فيه ﴿لم يلبثوا﴾ أي: في الدنيا أو في القبور ﴿إلا عشية﴾ أي: من الزوال إلى غروب الشمس ﴿أو ضحاها﴾ أو ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية بعد ذلك أضيف إليها الضحى؛ لأنها من النهار، والإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار من أوّله أو آخره لم يستكملوا نهاراً تامّاً، ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال ﷺ «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع».
فإن قيل: هلا قال: إلا عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة؟ أجيب: بأنّ ذلك للدلالة على أنّ مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه على عشيته فهو كقوله تعالى: ﴿لم يلبثوا إلا ساعة من نهار﴾ (الأحقاف: ٣٥)
وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
تنبيه: قرأ ﴿حديث موسى﴾، ﴿طوى﴾، ﴿طغى﴾، ﴿تزكى﴾، ﴿فتخشى﴾، ﴿وعصى﴾، ﴿يسعى﴾، ﴿فنادى﴾، ﴿الأعلى﴾، ﴿والأولى﴾، ﴿يخشى﴾، ﴿ما سعى﴾، ﴿طغى﴾، ﴿الدنيا﴾، ﴿المأوى﴾، ﴿عن الهوى﴾، ﴿المأوى﴾، حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين وبين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين. وقرأ ﴿فأراه الآية الكبرى﴾، ﴿الطامّة الكبرى﴾ ﴿لمن يرى﴾، ﴿من ذكراها﴾، أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح في الجميع.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله تعالى في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة» حديث موضوع.
سورة عبس
مكية وتسمى سورة السفرة
وهي اثنان وأربعون آية ومائة وثلاثون كلمة وثلاثمائة وثلاثون حرفاً