مخترجة جوفاء وبراء ـ والمخترجة هي التي شاكلت البخت، والجوفاء ذات الجوف، والوبراء ذات الوبر ـ فإن فعلت ذلك صدّقناك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتؤمنن ولتصدّقنّ فقالوا: نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة أي: تحرّكت للولادة تمخض النتوج بولدها فانصدعت أي: انشقت عن ناقة عشراء وهي التي مرّ عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وعظماؤهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندح ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن أسد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج وهو
بتقديم الحاء المهملة مثل التفسح وهو أن تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاؤا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون، وكانت تصيف أي: تقيم زمن الصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو أي: تقيم زمن الشتاء ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزين عقرها لهم امرأتان عنيزة بنت غنم وصدقة بنت المختار لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقبها وهو بفتح السين والقاف ولدها الذكر جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه، وانفجت وهو بتشديد الجيم أي: انفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غداً وجوهكم مصفرّة وبعد غد وجوهكم محمرّة واليوم الثالث وجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين فلما كان اليوم الرابع واشتدّ الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالإنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا. وسيأتي لهذه القصة زيادة إن شاء الله تعالى في سورة النمل.
ويروى أنّ رسول الله ﷺ حين مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» وقال ﷺ لعليّ: «أتدري من أشقى الأوّلين» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «عاقر ناقة صالح عليه السلام، أتدري من أشقى الآخرين» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «قاتلك» ﴿فتولى﴾ أي: أعرض صالح ﴿عنهم﴾ وفي هذا التولي قولان: أحدهما: أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا وهلكوا ويدلّ عليه قوله تعالى: {فأصبحوا
من ظلم بعضهم لبعض، وعلى الثاني آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله تعالى: ﴿فإما﴾ فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة ﴿يأتينكم مني هدى﴾ أي: كتاب ورسول ﴿فمن اتبع هداي﴾ الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول ﴿فلا يضل﴾ أي: بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا ﴿ولا يشقى﴾ في الآخرة؛ قال ابن عباس: من قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب، وذلك أن الله تعالى يقول: فمن اتبع هداي، فلا يضل ولا يشقى، ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى:
﴿ومن أعرض عن ذكري﴾ أي: عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه ﴿فإن له معيشة ضنكاً﴾ والضنك أصله الضيق والشدة، وهو مصدر، فكأنه قال: له معيشة ذات ضنك، واختلف في ذلك، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وروى أبو هريرة أنَّ عذاب القبر للكافر، قال: قال ﷺ «والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون»، وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وقال ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، وعن عطاء: المعيشة الضنك هي معيشة الكافر؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «عقوبة المعصية ثلاثة؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله»، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى، وعلى قسمته، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً رفيعاً كما قال الله تعالى: ﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ (النحل، ٩٧)، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، قال ﷺ «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه. قال بعض الصوفية: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وقال تعالى: ﴿استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً﴾ (نوح: ١٠، ١١)
الآية، وقال تعالى: ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً﴾ (الجن، ١٦)
. ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ قال ابن عباس: إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا﴾ (مريم، ٣٨)، وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ قال: لا يبصر إلا النار، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة، ويؤيد الأول قوله تعالى:
﴿قال رب لم حشرتني أعمى﴾ في هذا اليوم؟ ﴿وقد كنت بصيراً﴾ أي: في الدنيا، أو في أول هذا اليوم، فكأنه قيل: بما أجيب؟ فقيل:
﴿قال﴾ له ربه ﴿كذلك﴾ أي: مثل ذلك فعلت، ثم فسره، فقال: ﴿أتتك آياتنا﴾ واضحة نيرة ﴿فنسيتها﴾ فعميت
وحده ﴿السميع﴾ أي: لأقوالهم ﴿البصير﴾ أي: لأفعالهم.
ولما وصف تعالى جدالهم في الآيات بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال:
﴿لخلق السموات﴾ أي: على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها ﴿والأرض﴾ أي: على ما ترون من عجائبها وكثرة منافعها ﴿أكبر﴾ عند كل من يعقل ﴿من خلق الناس﴾ أي: خلق الله تعالى لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه مع عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم ﴿ولكن أكثر الناس﴾ وهم الذين ينكرون البعث وغيره ﴿لا يعلمون﴾ أي: لا علم لهم أصلاً بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم.
تنبيه: تقدير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام؛ أحدها: أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد. ثانيها: أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا الاستدلال صحيح لما ثبت في الأصول أن حكم الشيء حكم مثله. ثالثها: أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل قدر على الأقل الأرذل بالأولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل البتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السموات والأرض هو الله تعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه: الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ولا حجة بل بمجرد الحسد والكبر والغضب.
ثم لما بين تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وإن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون نبه تعالى على الفرق بين البيانين بذكر مثال فقال تعالى:
﴿وما يستوي﴾ أي: بوجه من الوجوه من حيث البصر ﴿الأعمى والبصير﴾ أي: وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ﴿والذين آمنوا﴾ أي: أوجدوا حقيقة الإيمان ﴿وعملوا الصالحات﴾ أي: تحقيقاً لإيمانهم ﴿ولا المسيء﴾ أي: وما يستوي المحسن والمسيء فلا زائدة للتوكيد لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين أعاد معه لا توكيداً، والمراد بالأول: التفاوت بين العالم والجاهل، وبالثاني: التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة.
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه قال تعالى: ﴿قليلاً ما يتذكرون﴾ أي: يتعظ المجادلون وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون، فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عمل صالح أو فاسد.
تنبيه: التقابل يأتي على ثلاث طرق؛ إحداها: أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية. والثانية: أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى: ﴿مثل الفريقين﴾ كالأعمى والأصم والبصير والسميع. الثالثة: أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى: ﴿وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور﴾ (فاطر: ١٩ ـ ٢٠)
كل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي
اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما يرى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.
﴿أولئك﴾ أي: البعداء البغضاء الذين يصنع بهم هذا ﴿هم﴾ أي: خاصة ﴿الكفرة الفجرة﴾ جمع الكافر والفاجر وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى فجمع تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه ﷺ قال: «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» حديث موضوع، وكان من حق البيضاوي أن لا يعبر بقال بل بعن كالزمخشري أو نحوها، ويأتي مثله في نظائره.
سورة التكوير
مكية
وهي تسع وعشرون آية ومائة وأربع كلماتوأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي أحاط علمه بالكائنات ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ وجوده سائر البريات ﴿الرحيم﴾ الذي خص حزبه بنعيم الجنات.
واختلف في معنى قوله تعالى: ﴿إذا الشمس﴾ أي: التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس ﴿كوّرت﴾ فقال ابن عباس: أظلمت. وقال قتادة: ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير: غوّرت. وقال مجاهد: اضمحلت. وقال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كرت العمامة على رأسي أكوّرها كوراً، وكورتها تكويراً إذا لففتها، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض، فمعناه أنّ الشمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها. قال ابن عباس: يكوّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً. وعن أبي هريرة أنّ النبيّ ﷺ قال: «الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة».
تنبيه: ارتفاع الشمس على الفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره كوّرت؛ لأن إذا تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط.
﴿وإذا النجوم﴾ أي: كلها كبارها وصغارها ﴿انكدرت﴾ أي: انقضت وتساقطت على الأرض.
قال تعالى: ﴿وإذا الكواكب انتثرت﴾ والأصل في الانكدار الانصباب.
قال العجاج في مدحه لعمرو بن معديكرب: ﴿ {
*أبصر خربان فضاء فانكدر**إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر تقضي البازي إذا البازي كسر
أي: فانقض وسقط، والخربان جمع خرب وهو ذكر الحبارى، والباع يستعمل في الكرم، يقال: فلان كريم الباع؛ والمعنى: أنّ الكرام إذا ابتدروا فعل المكرمات بدرهم عمرو، أي: أسرع كانقضاض البازي.
وروي عن ابن عباس أنّ النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة عليهم السلام، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها.
{وإذا الجبال﴾ التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي، وهي أصلب ما في الأرض. ﴿سيرت﴾ أي: ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً، وصارت الأرض قاعاً صفصفاً.
﴿وإذا العشار﴾ أي: النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى