الذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال: هل معك آية أخرى قال: نعم.
﴿ونزع يده﴾ أي: أخرجها من جيبه، وقيل: من تحت إبطه بعد أن أراه إياها محترقة أدماً كما كانت وهي عنده ﴿فإذا هي بيضاء﴾ نورانية ﴿للناظرين﴾ لها شعاع غلب شعاع الشمس قال ابن عباس: كان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم ثم ردّها إلى جيبه فإذا هي كما كانت ولما كان البياض المفرط عيباً في الجسد وهو البرص قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿من غير سوء﴾ (طه، ٢٢)
أي: من غير برص.
فإن قيل: بم يتعلق قوله تعالى: ﴿للناظرين﴾ ؟ أجيب: بأنه يتعلق بقوله تعالى: ﴿بيضاء﴾ والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب.
فإن قيل: أحد هذين الأمرين إمّا العصا وإمّا اليد كان كافياً فما فائدة الجمع بينهما؟ أجيب: بأنّ كثرة الدلائل توجب القوّة في اليقين وزوال الشك وقول بعض الملحدين: المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد وهو أنّ حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة من حيث أنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن أنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف: لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي: قوة كاملة ومرتبة ظاهرة مردود إذ حمل هاتين المعجزتين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان.
﴿قال الملأ﴾ أي: الأكابر ﴿من قوم فرعون إنّ هذا﴾ أي: موسى ﴿لساحر عليم﴾ أي: عالم بالسحر ماهر فيه قد أخذ بأعين الناس ويريهم الشيء بخلاف ما هو عليه حتى يخيل إليهم أنّ العصا صارت حية وأنّ الآدم أبيض كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان.
فإن قيل: قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قول الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء وقال أي: فرعون للملأ حوله: ﴿إن هذا لساحر عليم﴾ (الشعراء، ٣٤)
فكيف الجمع بينهما؟ أجيب: عن ذلك بجوابين: الأوّل: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولاً ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. الثاني: أن فرعون قال هذا القول ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامّة فأخبر الله تعالى هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون ﴿يريد﴾ أي: موسى ﴿أن يخرجكم﴾ أيها القبط ﴿من أرضكم﴾ أي: أرض مصر ﴿فماذا تأمرون﴾ أي: أيّ شيء تشيرون أن نفعل به فقوله: ﴿فماذا تأمرون﴾ من قول فرعون وإن لم يذكر، وقيل: من قول الملأ وتمّ كلام فرعون عند قوله:
﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم﴾ فقال الملأ مجيبين له: فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم، والمعنى: فما تأمرون أن نفعل به والقول الأوّل أصح لسياق الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: ﴿قالوا أرجئه﴾ أي: موسى ﴿وأخاه﴾ هارون عليهما السلام أي: أخر أمرهما ولا تعجل فيه حتى ننطر فى أمرهما والإرجاء في اللغة التأخير وقيل: الحبس أي: احبسه وأخاه ورد بأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعدما رأى من أمر العصا ما رأى.v
﴿يا ويلنا﴾ إشارة إلى أنه حل بهم؛ لأنه ينادي بيا القريب ترفقاً به كما يقول الشخص لمن يضربه: يا سيدي كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم؛ لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب، ثم عللوا حلوله بهم تأكيداً لترفقهم بقولهم: ﴿إنا كنا﴾ جبلة وطبعاً ﴿ظالمين﴾ حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف لفوات محله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه القرية حَضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة، وهي وسحول قريتان قريبتان من اليمن تنسب إليهما الثياب، وفي الحديث: «كفن رسول الله ﷺ في ثوبين سحوليين»، وروي حضوريين بعث الله لهم نبياً، فقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه الله على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم، وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى منادٍ من السماء: يا لثأرات الأنبياء، وهي بفتح اللام، وبمثلثة وهمزة ساكنة أي: يا لأهل ثأراتهم أي: الطالبة بدمهم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فندموا وقالوا ذلك
﴿فما﴾ أي: فتسبب عن إحلالنا بهم ذلك البأس أنه ما ﴿زالت تلك﴾ الدعوى البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم: يا ويلنا ﴿دعواهم﴾ يرددونها لا دعوى لهم غيرها؛ لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم ﴿حتى جعلناهم حصيداً﴾ كالزرع المحصود بالمناجل بأن قتلوا بالسيف،
تنبيه: حصيد على وزن فعيل بمعنى مفعول، ولذلك لم يجمع؛ لأنه يستوي فيه الجمع وغيره ﴿خامدين﴾ أي: ميتين كخمود النار إذا طفئت وصارت رماداً فإن قيل: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل أجيب بأنَّ حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد؛ لأن معنى قولك: جعلته حلواً حامضاً جعلته جامعاً للطعمين، وكذلك معنى جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود أو خامدين صفة لحصيداً أو حال من ضميره، ثم نبههم سبحانه وتعالى على النظر في خلق السموات وما بينهما ليعتبروا، فقال تعالى:
﴿وما خلقنا السماء﴾ على علوِّها وإحكامها ﴿والأرض﴾ على عظمها واتساعها ﴿وما بينهما﴾ مما دبرناه لتمام المنافع من أصناف البدائع وغرائب الصنائع ﴿لاعبين﴾ أي: عابثين كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم، وسائر زخارفهم للهو واللعب، وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار، وتذكيراً لذوي الاعتبار، وتسبيباً لما ينتظم به أمر العباد في المعاش والمعاد، ولما نفى عنه اللعب أتبعه دليله، فقال عز وجل:
﴿لو أردنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿أن نتخذ لهواً﴾ أي: ما يتلهى به ويلعب، وقيل: هو الولد بلغة اليمن، وقيل: الزوجة والمراد الرد على النصارى ﴿لاتخذناه من لدنا﴾ أي: من عندنا مما يليق أن ينسب لحضرتنا من الحور العين والملائكة بما لنا تمام القدرة، وكمال العظمة ﴿إن كنا فاعلين﴾ ذلك لكنا لم نفعله؛ لأنه لا يليق بجنابنا، فلم نرده، وقوله تعالى:
﴿بل نقذف﴾ أي: نرمي ﴿بالحق﴾ أي: الإيمان ﴿على الباطل﴾ أي: الكفر إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب بل شأننا أن نرمي بالحق الذي من جملة الجد على الباطل الذي من عداد اللهو ﴿فيدمغه﴾ أي: يذهبه، واستعار لدحض الباطل بالحق القذف والدمغ تصويراً لإبطاله به، وإهداره ومحقه، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة، ووجه استعارة القذف والدمغ لما ذكر أن أصل استعمالهما في
الوجهان كانت لفظة على أولى حتى تتم المزاوجة في قوله تعالى ﴿وعليها وعلى الفلك تحملون﴾ (المؤمنون: ٢٢)
وقال بعضهم: أن لفظ فيها هناك أليق لأن سفينة نوح عليه السلام كما قيل مسبقة عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح لأن الناس على ظهرها.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى مشتملة على آيات كثيرة قال تعالى:
﴿ويريكم﴾ أي: في كل لحظة ﴿آياته﴾ أي: دلائل قدرته ﴿فأي آيات الله﴾ أي: المحيط بصفات الكمال الدالة على وحدانيته ﴿تنكرون﴾ حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته وهذا استفهام توبيخ.
تنبيه: أي: منصوب بتنكرون وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام وتذكيره أشهر من تأنيثه، قال الزمخشري: وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهو في أي: أغرب لإبهامه، قال أبو حيان: ومن قلة تأنيث أي: قول الشاعر:
*بأي كتاب أم بأية سنة | ترى حبهم عاراً علي وتحسب* |
ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول: يا أيها المرأة إلا صاحب «البديع في النحو» وإن عني غير المناداة فكلامه صحيح، يقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة وشرطية.
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهب فقال تعالى:
﴿أفلم يسيروا﴾ أي: هؤلاء الذين هم أضل من الإنعام، لما حصل في صدورهم من الكبر العظيم طلباً للرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ﴿في الأرض﴾ أي أرض كانت سير اعتبار ﴿فينظروا﴾ نظر تفكر فيما سلكوه من سبلها ونواحيها ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي: آخر ﴿الذين من قبلهم﴾ أي: مع قرب الزمان والمكان أو بعد ذلك ﴿كانوا أكثر منهم﴾ عَدداً وعُدداً ومالاً وجاهاً ﴿وأشد قوة﴾ في الأبدان كقوم هود عليه السلام وبناء ﴿وآثاراً في الأرض﴾ بنحت البيوت في الجبال وحفر الآبار وبناء المصانع الجليلة وغير ذلك ﴿فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون﴾ بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما رتبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم الموت بل كانوا كأمس الذاهب.
تنبيه: ما الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
﴿فلما جاءتهم رسلهم﴾ أي: الذين قد أرسلناهم إليهم وهم يعرفون صدقهم وأماناتهم ﴿بالبينات﴾ أي: المعجزات الظاهرات الدالة على صدقهم لا محالة واختلف في عود ضمير فرحوا في قوله تعالى: ﴿فرحوا بما عندهم من العلم﴾ على وجهين؛ أحدهما: أنه عائد إلى الكفار واختلف في ذلك العلم الذي فرحوا به فقيل: هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً وهي الشبهات المحكية عنهم في القرآن كقولهم: ﴿ما يهلكنا إلا الدهر﴾ (الجاثية: ٢٤)
وقولهم: ﴿لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا﴾ (الأنعام: ١٤٨)
وقولهم: ﴿من يحيي العظام وهي رميم﴾ (يس: ٧٨)
﴿ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً﴾ (الكهف: ٣٦)
فكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء كما قال تعالى: ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ (الروم: ٣٢)
وقيل: المراد علم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علوم الأنبياء
عنها بغائبين}.
وروي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فإنك تعلم ما لك عند الله تعالى، قال: فأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله تعالى: ﴿إنّ الأبرار لفي نعيم﴾ الآية.k
قال سليمان: فأين رحمة الله تعالى؟ قال: قريب من المحسنين.
ثم عظم سبحانه وتعالى ذلك اليوم فقال: ﴿وما أدراك﴾ أي: وما أعلمك وإن اجتهدت في تطلب الدراية به ﴿ما يوم الدين﴾ أي: أيّ شيء هو في طوله وهوله وفظاعته وزلزاله.
ثم كرره تعجباً لشأنه فقال تعالى: ﴿ثم ما أدراك﴾ أي: كذلك ﴿ما يوم الدين﴾ أي: إنّ يوم الدين الذي بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصوّرته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه. والتكرير لزيادة التهويل.
ثم أجمل تعالى القول في وصفه فقال سبحانه: ﴿يوم لا تملك﴾ أي: بوجه من الوجوه في وقت ما ﴿نفس﴾ أي: أيّ نفس كانت ﴿لنفس شيئاً﴾ أي: قل أوجل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع يوم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو يوم. وجوّز الزمخشري أن يكون بدلاً مما قبله، يعني: يوم الدين، والباقون بالفتح بإضمار أعني أو اذكر.
﴿والأمر﴾ أي: كله ﴿يومئذ﴾ أي: إذ كان البعث للجزاء ﴿لله﴾ أي: ملك الملوك لا أمر لغيره فيه فلا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملكهم في الدنيا.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة». حديث موضوع.
سورة المطففين
مدنية
في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.
قال مقاتل: وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات وهي قوله تعالى: ﴿إن الذين أجرموا﴾ إلى آخرها فهو مكيّ. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة، ولعل هذا هو سبب الاختلاف وقال ابن مسعود والضحاك: مكية.
وهي ست وثلاثون آية وتسع وتسعون كلمة وسبعمائة وثمانون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي توكل عليه كفاه ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده الأبرار والعصاة ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل طاعته بهداه.
﴿ويل﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، وهو إمّا كلمة عذاب أو هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة، أو واد في جهنم. وقوله تعالى: ﴿للمطففين﴾ خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن؛ لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. قال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان: مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. { {
وروى ابن عباس أنّ رسول الله ﷺ قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل، فخرج رسول الله ﷺ فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله ما خمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوّهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر». وقال: السدي: قدم رسول الله ﷺ المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان