طائرهم عند الله} أي: سبب خيرهم وشرهم عنده تعالى وهو حكمه ومشيئته أو سبب شؤمهم عند الله تعالى وهو أعمالهم المكتوبة عنده فإنها التي ساقت إليهم ما يسوءهم ﴿ولكنّ أكثرهم لا يعلمون﴾ أي: إنّ ما يصيبهم من الله تعالى وذلك لأنّ أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطعونها عن قضاء الله تعالى وتقديره: والحق أنّ الكل من الله تعالى لأنّ كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وبهذا الطريق يكون الكل من الله تعالى فإسناده إلى غير الله تعالى يكون جهلاً بكمال الله تعالى.H
﴿وقالوا﴾ أي: فرعون وقومه القبط لموسى عليه السلام ﴿مهما تأتنا به﴾ وقوله تعالى: ﴿من آية﴾ أي: من عند ربك بيان لمهما وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا: ﴿لتسحرنا بها﴾ أي: لتصرفنا عما نحن عليه من الدين ﴿فما نحن لك بمؤمنين﴾ أي: بمصدّقين.
تنبيه: اختلف في أصل مهما فقيل: أصلها ما ما الأولى ما الشرطية والثانية ما الزائدة ضمت إليها للتأكيد ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين فصارت مهما هذا قول الخليل والبصريين، وقيل: أصلها مه التي بمعنى اكفف وما الجزائية كأنهم قالوا: اكفف ما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فهو كذا وكذا هذا قول الكسائي فهي مركبة على هذين القولين والمعتمد الذي جرى عليه ابن هشام وغيره أنها بسيطة لأنّ دعوى التركيب لم يقم عليها دليل ووزنها فعلى وألفها للإلحاق أو للتأنيث والضميران في به وبها راجعان لمهما إلا أن أحدهما ذكر باعتبار اللفط والثاني أنث باعتبار المعنى لأنه في معنى الآية ونحوه قول زهير:

*ومهما يكن عند امرىء من خليقة وإذ خالها تخفى على الناس تعلم*
قال في الكشاف: وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يحرّفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير موضعها ويحسب أنها بمعنى متى ما ويقول: مهما جئتني أعطيتك قال ابن عباس: إنّ القوم لما قالوا مهما تأتنا به من آية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها البتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فقال تعالى:
﴿فأرسلنا عليهم الطوفان﴾ وقال سعيد بن جبير: لما آمنت السحرة ورجع فرعون مغلوباً أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي على الشر فتابع الله تعالى عليهم الآيات فأخذهم أوّلاً بالسنين وهو القحط ونقص الثمرات وأراهم قبل ذلك من المعجزات اليد والعصا فلم يؤمنوا فدعا عليهم موسى وقال: يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإنّ قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فبعث الله تعالى عليهم الطوفان وهو الماء فأرسل الله تعالى المطر من السماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء وركب ذلك الماء على أرضهم فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئاً ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه
أي: الله ﴿لهم آلهة﴾ ﴿موصوفة بأنها تمنعهم﴾ مما يسوءهم ﴿من دوننا﴾ ليس لهم ذلك ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال تعالى: ﴿لا يستطيعون﴾ أي: الآلهة ﴿نصر أنفسهم﴾ فكيف ينصرون عابديهم ﴿ولا هم﴾ أي: الكفار ﴿منّا﴾ أي: من عذابنا ﴿يصحبون﴾ أي: يجارون يقال: صحبك الله أي: حفظك وأجارك.
﴿بل متعنا هؤلاء﴾ أي: الكفار على حقارتهم ﴿وآباءهم﴾ من قبلهم بالنعم استدراجاً ﴿حتى طال عليهم العمر﴾ أي: امتدّت بهم أيام الدنيا بالروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنتهم واستمتاعهم فاغتروا بذلك وذلك طمع فارغ وأمل كاذب، وغلظ ورش اللام بخلاف عنه ﴿أفلا يرون﴾ أي: يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر ﴿أنّا نأت الأرض﴾ أي: أرض الكفرة ﴿ننقصها من أطرافها﴾ بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها بقتل بعض ورّد بعض عن دينه إلى الإسلام فهم في نقص وأولياؤنا في زيادة ﴿أفهم الغالبون﴾ أي: مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا. ولما كرّر سبحانه وتعالى في القرآن الأدلة وبالغ في التنبيه عليها على ما تقدم أتبعه بقوله تعالى:
﴿قل﴾ يا أشرف الخلق لهؤلاء المشركين ﴿إنما أنذركم﴾ أي: أخوّفكم ﴿بالوحي﴾ أي: بالقرآن الذي هو كلام ربكم فلا تظنوا أنه من قبل نفسي ﴿ولا يسمع الصم الدعاء﴾ أي: ممن يدعوهم ﴿إذا ما ينذرون﴾ أي: يخوّفون فهم لترك العمل بما سمعوه كالصم فإن قيل: الصم لا يسمعون دعاء البشر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل: إذا ما ينذزون؟ أجيب: بأنه وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا، أي: هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة وعلى التصامّ عن آيات الإنذار، وقرأ ابن عامر ولا تسمع بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم ونصب ميم الصم على الخطاب النبوي والباقون بالياء التحتية وفتح الميم ورفع ميم الصم وفي الدعاء، وإذا همزتان مختلفتان من كلمتين؛ الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والياء والباقون بتحقيق الهمزتين، وهذا في حال الوصل، فإن وقف على الهمزة الأولى فالجميع يبتدئون الثانية بالتحقيق، ويقف حمزة وهشام بإبدال الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر.
﴿ولئن مستهم﴾ أي: أصابتهم ﴿نفحة﴾ أي: دفعة خفيفة وفي ذلك مبالغات ذكر المس وما في النفحة من معنى القلة فإنّ أصل النفح هبوب رائحة الشيء والتاء الدالة على المرّة ﴿من عذاب ربك﴾ المحسن إليك بنصرك عليهم من الذي ينذرون به ﴿ليقولنّ﴾ وقد أذهلهم أمرها ﴿يا ويلنا﴾ الذي لا نرى بحضرتنا الآن غيره ﴿إنّا كنّا ظالمين﴾ دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقرّوا بالظلم، ثم ذكر تعالى بعض ما يفعل في حساب الساعة من العدل، فقال عاطفاً على قوله تعالى: ﴿بل تأتيهم بغتة﴾ :
﴿ونضع الموازين القسط﴾ أي: ذوات العدل ﴿ليوم القيامة﴾ أي: فيه وإنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم ويجوز أن يرجع إلى الوزنات وقيل: وضع الموازين تمثيلاً لإرصاد الحساب السويّ والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن الله تعالى يضع ميزاناً حقيقة توزن به أعمال العباد وعن الحسن هو الميزان له كفتان ولسان، ويروى أنّ داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب، فغشي عليه
أي: أقواتاً تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، فأضاف القوت إلى الأرض لكونه متولداً من تلك الأرض حادثاً فيها لأن النحاة قالوا: يكفي في جنس الإضافة أدنى سبب، فالشيء يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، أي: قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال لتنتظم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إبداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها دفعة واحدة على مقدار لا يتعداه ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه وقدره فأمضاه لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته.
ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها. فقال تعالى: ﴿في أربعة أيام﴾ أي: مع اليومين الماضيين كقولك بنيت بيتي في يوم وأكملته في يومين أي: بالأول، وقال أبو البقاء: في تمام أربعة أيام ولولا هذا التقدير لكانت ثمانية، يومان في الأول وهو قوله تعالى ﴿خلق الأرض في يومين﴾ ويومان في الآخر وهو قوله تعالى: ﴿فقضاهن سبع سموات في يومين﴾ وأربعة في الوسط وهو قوله تعالى: ﴿في أربعة أيام﴾، فإن قيل: إنه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط فلم ترك التصريح بذكر الكلام المجمل؟ أجيب: بأن قوله تعالى في: ﴿أربعة أيام﴾ ﴿سواء﴾ أي: استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص فيه فائدة زائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين لأنه لو قال تعالى خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كون اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال: ﴿في أربعة أيام سواء﴾ دل على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان.
ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السموات مع كونها أصغر من السموات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضاً لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور.
قال البقاعي: ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً للسكينة والبعد عن العجلة، وقوله تعالى: ﴿للسائلين﴾ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق
سورة الانشقاق
مكية
وهي ثلاث أو خمس وعشرون آية ومائةوسبع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي شقق الأرض بالنبات ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده أهل الأرض والسموات ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل طاعته بالجنات.
وقوله تعالى: ﴿إذا السماء﴾ أي: على ما لها من الأحكام والعظمة ﴿انشقت﴾ كقوله تعالى: ﴿إذا الشمس كوّرت﴾ (التكوير: ١) ﴿ {
في إضمار الفعل وعدمه، وفي إذا هذه احتمالان: أحدهما: أن تكون شرطية، والثاني: أن تكون غير شرطية. فعلى الأوّل في جوابها أوجه: أحدها: أنه محذوف ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله تعالى: {علمت نفس﴾
(الإنفطار: ٥، وسورة التكوير: ١٤)
والثاني: جوابها ما دل عليه ﴿فملاقيه﴾ الثالث: أنه ﴿يا أيها الإنسان﴾ على حذف الفاء وعلى كونها غير شرطية فهي مبتدأ، وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة، تقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش. وقيل: إنه منصوب مفعولاً به بإضمار اذكر انشقاقها بالغمام، وهو من علامات القيامة كقوله تعالى: ﴿ويوم تشقق السماء بالغمام﴾ (الفرقان: ٢٥)
وعن عليّ تنشق من المجرّة. قال ابن الأثير: المجرّة هي البياض المعترض في السماء والسراب من جانبها.
﴿وأذنت﴾ أي: سمعت وأطاعت في الانشقاق ﴿لربها﴾ أي: لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي ورد عليه الأمر من جهة المطاع، فأنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله: ﴿أتينا طائعين﴾ (فصلت: ١١٠)
﴿وحقت﴾ أي: حق لها أن تسمع وتطيع بأن تنقاد ولا تمتنع. يقال: حق بكذا فهو محقوق وحقيق.
﴿وإذا الأرض﴾ أي: على ما لها من الصلابة ﴿مدّت﴾ أي: زيد في سعتها كمدّ الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل، كما قال تعالى: ﴿قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمّتا﴾ (طه: ١٠٦ ـ ١٠٧)
وعن ابن عباس مدّت مدّ الأديم العكاظيّ لأنّ الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى.
﴿وألقت﴾ أي: أخرجت ﴿ما فيها﴾ من الكنوز والموتى كقوله تعالى: ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ (الزلزلة: ٢١)
. ﴿وتخلت﴾ أي: خلت منها حتى لم يبق في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدّة، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنّ الله تعالى هو المخرج لتلك الأشياء من الأرض.
وقوله تعالى: ﴿وأذنت لربها وحقت﴾ تقدّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار لأنّ الأول في السماء وهذا في الأرض، وتقدّم جواب إذا. ومن جملة ما قيل فيه: وما عطف عليه أنه محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: لقي الإنسان عمله وذلك كله يوم القيامة. واختلف في الإنسان في قوله تعالى:
﴿يا أيها الإنسان﴾ أي: الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه ﴿إنك كادح﴾ فقيل: المراد جنس الإنسان كقولك: يا أيها الرجل، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد ﷺ والمعنى: إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال


الصفحة التالية
Icon