أن يستقل بأعبائها أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك به في آياتك والباء إمّا أن تتعلق بقوله: ﴿ادع لنا ربك﴾ على وجهين: أحدهما: أسعفنا إلى ما نطلب منك من الدعاء لك بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك وإمّا أن يكون قسماً مجاباً بقوله تعالى: ﴿لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك﴾ أي: أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ﴿ولنرسلنّ معك بني إسرائيل﴾ أي: لنصدّقنك بما جئت به ولنخلين بني إسرائيل ليذهبوا حيث شاؤوا.
﴿فلما كشفنا عنهم الرجز﴾ أي: بدعاء موسى عليه السلام ﴿إلى أجل هم بالغوه﴾ أي: إلى حدّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ وقوله تعالى: ﴿إذا هم ينكثون﴾ جواب لما أي: فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث من غير توقف وتأمّل فيه.
فإن قيل: إنّ الله تعالى علم من حال هؤلاء أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها؟ أجيب: بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عما يفعل قال تعالى:
﴿فانتقمنا منهم﴾ أي: كافأناهم على سوء صنيعهم وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب لأنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرّات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم وبلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم كما قال تعالى: ﴿فأغرقناهم في اليمّ﴾ أي: في البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأنّ المنتفعين به يقصدونه قال الأزهريّ: ويقع اليمّ على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿فاقذفيه في اليمّ﴾ (طه، ٣٩)
والمراد نيل مصر وهو عذب، وإغراقهم ﴿بأنهم﴾ أي: بسبب أنهم ﴿كذبوا بآياتنا﴾ الدالة على وحدانيتنا وصدق رسولنا ﴿وكانوا عنها﴾ أي: الآيات ﴿غافلين﴾ أي: لا يتدبرونها، وقيل: الضمير في عنها يرجع للنقمة التي دل عليها قوله تعالى: ﴿انتقمنا﴾ أي: وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين.
فإن قيل: الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة أجيب: بأنّ المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل: أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام بهذين دون غيرهما؟ أجيب: بأنه ليس في بيان أنه تعالى انتقم منهم بهذين دلالة على نفي ما عداهما. قال الرازي: والآية تدل على أنّ الواجب في الآيات النظر فيها فلذلك ذمّهم بأنهم غفلوا عنها وذلك يدل على أنّ التقليد طريق مذموم ولما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين تعالى ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال تعالى:
﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون﴾ أي: بالاستعباد وذبح الأبناء وأخذ الجزية والأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل ﴿مشارق الأرض ومغاربها﴾ أي: أرض الشأم وهي من الفرات إلى بحر سرف الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله كما نقله البقاعي في المائدة عن التوراة، وقيل: المراد جملة الأرض لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان عليهما السلام وقد ملكا الأرض ويدل للأوّل قوله
الباء الموحدة والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها مع كونها بدلاً زيادة على التأكيد التعجب ﴿لأكيدن أصنامهم﴾ أي: لأجتهدنّ في كسرها والتأكيد وما في التاء من التعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأنّ ذلك كان أمراً مقنوطاً منه لصعوبته وتعذره ولعمري إنّ مثله صعب متعذر في كل زمان خصوصاً في زمن نمروذ مع عتّوه واستكباره وقوّة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه، ولكن إذا الله سنى عقد شيء تيسراً، ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أي جزء تيسر له منه أسقط الجار فقال: ﴿بعد أن تولّوا مدبرين﴾ أي: بعد أن تدبروا منطلقين إلى عيدكم قال مجاهد وقتادة: إنما قال إبراهيم هذا سراً من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، وقال السدّي: كان لهم في كل سنة مجمع عيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي برجلي فلما مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تالله لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهي في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة، وقالوا: إذا رجعنا وقد بركت الأصنام الآلهة عليه أكلنا منه فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه قال لهم مالكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضرباً باليمين وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل:
﴿فجعلهم جذاذاً﴾ أي: فتاتاً وقرأ الكسائي بكسر الجيم والباقون بضمها ﴿إلا كبيراً لهم﴾ فإنه لم يكسره ووضع الفأس في عنقه وقيل ربطه بيده وكانت اثنين وسبعين صنماً بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد ورصاص وخشب وحجر وكان الصنم الكبير من الذهب مكللاً بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان ﴿لعلهم﴾ أي: هؤلاء الضلال ﴿إليه﴾ أي: إبراهيم ﴿يرجعون﴾ عند إلزامه بالسؤال فتقوم عليهم الحجة فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال ﴿قالوا من فعل هذا﴾ الفعل الفاحش ﴿بآلهتنا إنه لمن الظالمين﴾ حيث وضع الإهانة في غير موضعها فإنّ الآلهة حقها الإكرام لا الإهانة والانتقام
﴿قالوا﴾ أي: الذين سمعوا قول إبراهيم وتاالله لأكيدنّ أصنامكم ﴿سمعنا فتى﴾ أي: شاباً من الشباب ﴿يذكرهم﴾ أي: يعيبهم ويسبهم ﴿يقال له إبراهيم﴾ أي: هو الذي نظنّ أنه صنع هذا، فلما بلغ ذلك نمروذ الجبار وأشراف قومه
﴿قالوا فأتوا به﴾ إلى بيت الأصنام ﴿على أعين الناس﴾ أي: جهرة والناس ينظرون إليه نظر الإخفاء معه حتى كأنه ماش على أبصارهم متمكن منها تمكن الراكب على المركوب ﴿لعلهم يشهدون﴾ عليه بأنه الذي فعل بالآلهة هذا الفعل كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، وقيل معناه: لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به، فلما أتوا به
﴿قالوا﴾ منكرين
منه فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم فأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش قالوا: قد أصبت لو أتممت قالوا: ثم استراح، فغضب النبي ﷺ غضباً شديداً فنزل ﴿ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون﴾ (ق: ٣٨ ـ ٣٩)، فإن قيل: اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بطلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟.
أجيب: بأن معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدار اليوم كما مر، وقضاء الشيء إتمامه والفراغ منه قال ابن جرير: وإنما سمي الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وخلق السموات والأرض أي: فرغ من ذلك وأتمه ﴿فأوحى﴾ أي: ألقى بطريق خفي وحكم بثبوت قوي ﴿في كل سماء أمرها﴾ أي: الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل وزمام مبرم لا ينحل، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقال السدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة لوقعت على الكعبة.
ولما عم خص التي تلينا إشارة إلى تشريفنا فقال تعالى صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم ﴿وزينا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿السماء الدنيا﴾ أي: القربى إليكم لأجلكم ﴿بمصابيح﴾ وهي النيرات التي خلقها الله في السموات وخص كل واحدة بضوء معين وسير معين وطبيعة معينة لا يعلمها إلا الله تعالى ولا ينافي كون الدنيا مزينة بذلك أن تكون النجوم في غيرها مما هو أعلى منها لأن السياق دل على أنها زينة.
وقوله تعالى: ﴿وحفظاً﴾ في نصبه وجهان؛ أحدهما: أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر أي: وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً، والثاني: أنه مفعول من أجله على المعنى فإن التقدير: وخلقنا الكواكب زينة وحفظاً قال أبو حيان: وهو تكلف وعدول عن السهل البين، والمعنى: وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع بالشهب أو من الآفات ﴿ذلك﴾ أي: الأمر الرفيع والشأن البديع ﴿تقدير العزيز﴾ أي: الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء، ﴿العليم﴾ أي: المحيط علماً بكل شيء فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم.
ولما كان المتمادي على إعراضه كأنه جدد إعراضاً غير إعراضه الأول قال تعالى مفصلاً بعد قوله تعالى ﴿فأعرض أكثرهم﴾ :
﴿فإن أعرضوا﴾ أي: استمروا على إعراضهم بعد هذا الشأن أو أعرض غيرهم عن قبول ما جئتهم به من الذكر بعد هذا البيان الواضح في هذه الآيات التي دلت على الوحدانية والعلم والقدرة وغيرها من صفات الكمال أتم دلالة ﴿فقل﴾ أي: لهم ﴿أنذرتكم صاعقة﴾ أي: فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة ﴿مثل صاعقة عاد وثمود﴾ وقال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان والإنذار التخويف، وإنما خص هاتين القبيلتين لأن
﴿إذا السماء انشقت﴾ فسجد فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم ﷺ فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وليس في ذلك دلالة على وجوبها فهي مندوبة. وعن الحسن: هي واجبة. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجود بأنه تعالى ذمّ من سمعه ولم يسجد. وعن ابن عباس: ليس في المفصل سجدة، وما روى أبو هريرة يخالفه. وعن أنس: صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا.
﴿بل الذين كفروا يكذبون﴾ أي: بالقرآن والبعث.
﴿والله أعلم بما يوعون﴾ أي: بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء، ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.
وقوله تعالى: ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ أي: مؤلم استهزاء بهم، أو أنّ البشارة بمعنى الإخبار، أي: أخبرهم.
وقوله تعالى: ﴿إلا﴾ استثناء منقطع، أي: لكن ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ تحقيقاً لإيمانهم ﴿لهم أجر غير ممنون﴾ أي: غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون به عليهم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ ﴿إذا السماء انشقت﴾ أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره» حديث موضوع.
سورة البروج
مكية
وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلماتوأربعمائة وثمانية وخمسون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي أحاط علمه بالكائنات ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده سائر المخلوقات ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل السعادة بالجنات.
وقوله تعالى: ﴿والسماء﴾ أي: العالية غاية العلوّ، المحكمة غاية الإحكام ﴿ذات البروج﴾ قسم أقسم الله تعالى به، وتقدّم الكلام على ذلك مراراً، وفي البروج أقوال: فقال مجاهد: هي البروج الاثنا عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات. وقال الحسن: هي النجوم، وقيل: هي منازل القمر. وقال عكرمة: هي قصور في السماء. وقيل: عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها. وقيل: أبواب السماء. وقوله تعالى:
﴿واليوم الموعود﴾ قسم آخر وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.
واختلفوا في قوله سبحانه وتعالى:
﴿وشاهد ومشهود﴾ فقال أبو هريرة وابن عباس: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى مرفوعاً: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة. والشاهد يوم الجمعة» خرّجه الترمذي في جامعه. قال القشيري: فيوم الجمعة يشهد على عامله بما عمل فيه. قال القرطبي: وكذا سائر الأيام والليالي لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية أنّ النبيّ ﷺ قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شاهد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فإني إذا مضيت لم ترني أبداً، ويقول الليل مثل ذلك» حديث غريب. وحكى القشيري عن عمر أنّ الشاهد يوم الأضحى. وقال ابن المسيب: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وروي عن علي: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر. وقال مقاتل: أعضاء الإنسان هي الشاهد لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم


الصفحة التالية
Icon