يا رب إني أجد أمّة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط وادياً حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غرّ محجلون من آثار الوضوء فاجعلهم أمّتي قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحداً إلا مرحوماً فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، قال: يا رب إني أجد أمّة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة
يصطفون في صلاتهم كصفوف الملائكة أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل لا يدخل النار أحد منهم إلا من برىء من الحسنات مثل ما برىء الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد، فلما عجب موسى من الخير الذي أعطاه الله محمداً وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله تعالى إليه ﴿إني اصطفيتك﴾ الخ فرضي موسى كل الرضا، ومعنى ﴿بقوّة﴾ أي: بجدّ وعزيمة ﴿وأمر قومك يأخذوا بأحسنها﴾ أي: بأحسن ما فيها.
فإن قيل: ظاهر هذا يقتضي أنّ فيها ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأوّل: أنّ تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاد والعفو والانتصار والصبر فمرهم أن يحملوا أنفسهم بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله تعالى: ﴿واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم﴾ (الزمر، ٥٥)
وقوله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ (الزمر، ١٨)
هذا ما أجاب به في الكشاف وتبعه البيضاوي والإمام الرازي لكن قال التفتازاني: هذا ينافي ما تقرر من أن المكتوب على بني إسرائيل هو القصاص قطعاً والجواب بأنه مثال للحسن والأحسن لا لكونه في التوراة بعيد جداً.
فإن قيل: يلزم عليه أيضاً منع الأخذ بالحسن وذلك يقدح في كونه حسناً. أجيب عن هذا: بأن الأخذ بالحسن الثاني على سبيل الندب فلا يقدح في منع الأخذ بالحسن، الثاني: أن الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هؤلاء الثلاثة الواجب، الثالث: أن المراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة وهو المأمور به كقولهم: الصيف أحر من الشتاء أي: هو في حره أبلغ من الشتاء في برده فكذا هنا المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح ﴿سأريكم دار الفاسقين﴾ أي: دار فرعون وقومه وهي مصر كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل ما نكل بهم، وقيل: منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم، وقيل: المراد دارهم في الآخرة وهي جهنم.
﴿سأصرف عن آياتي﴾ المنصوبات في الآفاق والأنفس كغلق السموات والأرض وما بينهما ﴿الذين يتكبرون في الأرض﴾ أي: أصرفها عنهم بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وقال سفيان بن عيينة: سأمنعهم فهم القرآن، وقوله تعالى: ﴿بغير الحق﴾ صلة يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل فإن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر
مؤسساً على حكمة العلم ﴿وعلماً﴾ مؤيداً بصالح العمل، وعن الحسن لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان عليه السلام لصوابه، وعلى داود باجتهاده انتهى، وهذا على الرأي الثاني، وعليه أكثر المفسرين، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ «إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر»، وهل كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد لا بعينه؟ رأيان أظهرهما الثاني، وإن كان مخالفاً لمفهوم الآية إذ لو كان كل مجتهد مصيباً لم يكن للتقسيم في الحديث معنى وقوله ﷺ وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق؛ لأنّ اجتهاده عبادة، والإثم في الخطأ عنه موضوع.
فائدة: من أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى» أخرجاه في الصحيحين، ثم إنه تعالى ذكر لداود وسليمان بعض معجزات، فمن بعض معجزات الأوّل ما ذكره بقوله تعالى: ﴿وسخرنا مع داود الجبال﴾ مع صلابتها وعظمها ﴿يسبحن﴾ معه أي: يقدّسن الله تعالى، ولو شئنا لجعلنا الحرث والغنم تكلمه بصواب الحكم، وقال ابن عباس: كان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وقوله تعالى: ﴿والطير﴾ عطف على الجبال أو مفعول معه، وقال: وهب كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذا الطير، وقال قتادة: يسبحن أي: يصلين معه إذا صلى، وقيل: كان داود إذا فتر يسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه، وقيل: يسبحن بلسان الحال، وقيل: يسبح من رآها تسير معه بتسيير الله تعالى، فلما جبلت على التسبيح وصفت به ﴿وكنا غافلين﴾ أي: من شأننا الفعل لأمثال هذه الأفاعيل، ولكل شيء نريده، فلا تستكثروا علينا أمراً، وإن كان عندكم عجباً، وقد اتفق نحو هذا لغير واحد من هذه الأمة. كان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه أبنيته، وأمّا النبيّ ﷺ فكان الطعام يسبح بحضرته والحصى وغيره
﴿وعلمناه صنعة لبوس﴾ أي: صنعة الدروع التي تلبس في الحرب؛ قال قتادة: أوّل من صنع هذه الدروع وسردها واتخذها حلقاً داود، وكانت من قبل صفائح، وقد ألان الله تعالى لداود الحديد فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين؛ قال البغوي: وهو أي: اللبوس في اللغة: اسم لكل ما يلبس ويستعمل في الأسلحة كلها وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب، وقوله تعالى: ﴿لكم﴾ متعلق بعلم أو صفة للبوس، وقوله تعالى: ﴿لتحصنكم من بأسكم﴾ بدل منه بدل اشتمال بإعادة الجار ومرجع الضمير يختلف باختلاف القراءات، فقرأ شعبة بالنون فالضمير لله تعالى، وقرأ ابن عامر وحفص بالتاء على التأنيث، فالضمير للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع، وقرأ الباقون بالياء التحتية، فالضمير لداود أو للبوس، وقوله تعالى: ﴿فهل أنتم شاكرون﴾ أي: لنا على ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة أو التقريع، ومن بعض معجزات
ما في النار بقوله تعالى: ﴿لهم فيها﴾ أي: النار ﴿دار الخلد﴾ أي: فإنها دار إقامة، قال الزمخشري: فإن قلت ما معنى قوله: ﴿لهم فيها دار الخلد﴾ قال: قلت: إن النار في نفسها دار الخلد كقوله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ (الأحزاب: ٢١)
أي: الرسول هو نفس الأسوة.
وقال البيضاوي: هو كقولك في هذه الدار دار سرور يعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة قال ابن عادل: في هذا نظر إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد والنار محيطة بها وهذا أولى، وقوله تعالى: ﴿جزاءً﴾ منصوب بالمصدر الذي قبله وهو ﴿جزاء أعداء الله﴾ والمصدر ينصب بمثله كقوله تعالى: ﴿فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً﴾ (الإسراء: ٦٣)
﴿بما كانوا بآياتنا﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿يجحدون﴾ أي: يلغون في القراءة وسماه جحداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً.
ولما بين تعالى أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعذاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين ما يقولون في النار بقوله تعالى:
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي: غطوا أنوار عقولهم داعين بما لا يسمع لهم فهو زيادة في عقوبتهم وحكايته لها وعظ وتحذير ﴿ربنا﴾ أي: يا أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا ﴿أرنا﴾ الصنفين ﴿اللذين أضلانا﴾ أي: عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان ﴿من الجن والإنس﴾ لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن﴾ (الأنعام: ١١٢)
وقال تعالى: ﴿الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس﴾ (الناس: ٥ ـ ٦)
وقيل: هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه، لأن الكفر سنه إبليس، والقتل بغير حق سنه قابيل، فهما سنا المعصية، وقرأ ابن كثير والسوسي، وابن عامر وشعبة بسكون الراء من أرنا، واختلس الدوري كسر الراء، وكسرها الباقون، وشدد ابن كثير النون من اللذين ﴿نجعلهما تحت أقدامنا﴾ في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما ﴿ليكونا من الأسفلين﴾ قال مقاتل: أسفل منافي النار، وقال الزجاج: ليكونا في الدرك الأسفل من النار أي: من أهل الدرك الأسفل وممن هودوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال باتباعنا لهما، وقال بعض الحكماء: المراد باللذين أضلانا: الشهوة والغضب، والمراد بجعلهما تحت أقدامهم: كونهما مسخرين للنفس مطيعين لها وأن لا يكونا مستوليين عليها ظاهرين عليها.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب فقال تعالى:
﴿إن الذين قالوا﴾ أي: قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله تعالى في الدنيا ﴿ربنا﴾ أي: المحسن إلينا ﴿الله﴾ أي: المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له، وثم في قوله تعالى: ﴿ثم استقاموا﴾ لتراخي الرتبة في الفضيلة فإن الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمر في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام.
سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئاً، وقال عمر رضي الله عنه، الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب. وقال عثمان رضي الله عنه: أخلصوا العمل لله، وقال علي رضي الله عنه: أدوا الفرائض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا على أمر الله تعالى بطاعته
والنقصان. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الطارق
مكية
وهي سبع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وإحدى وسبعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ مالك الخلق أجمعين ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده المؤمنين والكافرين ﴿الرحيم﴾ الذي خص رحمته بعباده المؤمنين.
وقوله تعالى: ﴿والسماء والطارق﴾ قسم أقسم الله تعالى به، وقد أكثر الله تعالى في كتابه العزيز ذكر السماء والشمس والقمر؛ لأنّ أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة. ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أوّلاً، ثم عظم القسم به بقوله تعالى:
﴿وما أدراك﴾ أي: أعلمك يا أشرف خلقنا، وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه ﴿ما الطارق﴾ وهذا مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري، وما بعد ما الأولى خبرها، وفيه تعظيم لشأن الطارق. وأصله كل آت ليلاً ومنه النجوم لطلوعها ليلاً. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة وابن ذكوان بخلافٍ عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.k
ثم فسر الطارق بقوله تعالى: ﴿ {
{النجم الثاقب﴾ أي: المضيء لثقبه الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل: دُرِّيّ لأنه يدرؤه، أي: يدفعه، والمراد جنس النجوم أو جنس الشهب التي يرجم بها. وقال محمد بن الحسين: هو زحل. وقال ابن زيد: هو الثريا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الجدي. وقال عليّ: هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وحين يرجع.
وفي الصحاح: الطارق النجم الذي يقال له: كوكب الصبح. قال الماوردي: وأصل الطرق الدق، ومنه سميت المطرقة، وسمي النجم طارقاً لأنه يطرق الجني أي: يقتله. روي أنّ أبا طالب أتى النبيّ ﷺ بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأت الأرض نوراً ففزع أبو طالب، وقال: أيّ شيء هذا؟ فقال رسول الله ﷺ «هذا نجم رمي به وإنه آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت السورة. وقال مجاهد: الثاقب المتوهج، وجواب القسم.
﴿إن كل نفس﴾ أي: من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس ﴿لما عليها﴾ أي: بخصوصها ﴿حافظ﴾ وقرأ ابن عامر وعاصم بتشديد الميم والباقون بتخفيفها تكون مزيدة، وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه واللام فارقة وعلى تشديدها فإن نافية، ولما بمعنى إلا. والحافظ: هو المهيمن الرقيب وهو الله تعالى، ﴿وكان الله على كل شيء رقيباً﴾ (الأحزاب: ٥٢)، ﴿وكان الله على كل شيء مقيتاً﴾ (النساء: ٨٥)، أو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. وروى الزمخشري عن النبيّ ﷺ أنه قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب أحدكم عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين اختطفته الشياطين. ولما ذكر تعالى أن على كل نفس حافظاً أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في حاله فقال تعالى:
﴿فلينظر الإنسان﴾ أي: الآنس بنفسه الناظر في عطفه نظر اعتبار في أمره ونشأته