دخول لفظ رغداً هناك: دون هنا، وأمّا الرابع: وهو قوله هناك: ﴿ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة﴾ وقال هنا على التقديم والتأخير فلا منافاة في ذلك لأنّ المقصود من ذلك تعظيم أمر الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع له فلم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير، وأمّا الخامس: وهو أنه قال هناك: ﴿خطاياكم﴾ وقال هنا: ﴿خطيئاتكم﴾ فهو إشارة إلى أنّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة أم كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرّع، وأمّا السادس: وهو قوله تعالى هناك: ﴿وسنزيد﴾ بالواو وقال هنا بحذفها
فالفائدة في حذف الواو أنه تعالى وعد بشيئين بالغفران وبالزيادة للمحسنين من الثواب وإسقاط الواو لا يخل بذلك المعنى لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا حصل بعد الغفران؟ فقيل: إنه سيزيد المحسنين، وأما السابع: وهو الفرق بين أنزلنا وبين أرسلنا، فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما تقدّم من الفرق بين انبجست وانفجرت.
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله تعالى: ﴿يفسقون﴾ وبين قوله تعالى: ﴿يظلمون﴾ فلأنهم لما ظلموا أنفسهم فيما غيروا وبدّلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله فوصفوا بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم، وبكونهم فاسقين لأنهم خرجوا عن طاعة الله فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين هذا ملخص كلام الرازي رحمه الله تعالى ثم قال: وتمام العلم بذلك عند الله تعالى.
﴿واسألهم﴾ أي: اسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع ﴿عن القرية﴾ أي: عن خبرها وما وقع بأهلها لا سؤال استفهام لأنه ﷺ كان قد علم حال هذه القرية بوحي من الله تعالى إليه وإخباره إياه بحالهم وإنما القصد من هذا السؤال تقرير اعتداء اليهود وإقدامهم على الكفر والمعاصي قديماً، وأن إصرارهم على الكفر بمحمد ﷺ وإنكارهم نبوته ومعجزاته ليس بشيء قد حدث الآن في زمانه، بل إصرارهم على الكفر كان حاصلاً في قديم الزمان، وفي الإخبار بهده القصة معجزة للنبي ﷺ لأنه كان أمياً لم يقرأ الكتب القديمة ولم يعرف أخبار الأوّلين ثم أخبرهم بما جرى لأسلافهم في قديم الزمان وأنهم بسبب مخالفتهم لأمر الله تعالى مسخوا قردة، واختلفوا في هذه القرية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور على شاطىء البحر، وقال الزهري: هي طبرية الشام، وقيل: مدين والعرب تسمي المدينة قرية، وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، يعني: رجلين من أهل المدن. ﴿التي كانت حاضرة البحر﴾ أي: مجاورة بحر القلزم على شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: ﴿ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام﴾ (البقرة، ١٩٦)
﴿إذ﴾ أي: حين ﴿يعدون﴾ أي: يعتدون ﴿في السبت﴾ أي: يتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد فيه وقد نهوا عنه، وقوله تعالى: ﴿إذ تأتيهم حيتانهم﴾ ظرف ليعدون ﴿يوم سبتهم شرعاً﴾ أي: ظاهرة على الماء كثيرة جمع شارع، وقال الضحاك: متتابعة، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض والحيتان السمك وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد
لا أتغير على طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن ﴿فاعبدون﴾ دون غيري فإنه لا كفء لي، ثم إنّ بعضهم خالف الأمر بالاجتماع كما أخبر الله تعالى
﴿وتقطعوا﴾ أي: بعض المخاطبين ﴿أمرهم بينهم﴾ أي: تفرقوا أمر دينهم متخالفين فيه وهم طوائف اليهود والنصارى؛ قال الكلبي: فرّقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض.
تنبيه: الأصل وتقطعتم إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبح عليهم فعلهم عندهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى، والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه بينهم، فيصير لهذا نصيب، ولذاك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى، ثم توعدهم بقوله تعالى: ﴿كلٌ﴾ أي: من هذه الفرق وإن بالغ في التمرّد ﴿إلينا﴾ يوم القيامة ﴿راجعون﴾ فنحكم بينهم فيتسبب عن ذلك أنّا نجازيهم إقامة للعدل، فنعطي كلاً من المحق التابع لأصفيائنا والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى فارقاً بين المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً إلى الفضل
﴿فمن يعمل﴾ أي: منهم الآن ﴿من الصالحات وهو﴾ أي: والحال أنه ﴿مؤمن﴾ أي: يأتي بعمله على الأساس الصحيح ﴿فلا كفران﴾ أي: لا جحود ﴿لسعيه﴾ بل يشكر ويثاب عليه.
تنبيه: قوله تعالى: فلا كفران نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه ﴿وإنّا له﴾ أي: لسعيه ﴿كاتبون﴾ أي: مثبتون في صحيفة عمله وما أثبتناه فهو غير ضائع فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل، ومن المعلوم أنّ قسيمه وهو من يعمل من السيئات وهو كافر، فلا نقيم له وزناً، ومن يعمل منها وهو مؤمن فهو تحت مشيئتنا قال البقاعيّ: ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان، ولما كان هذا غير صريح في أنَّ هذا الرجوع بعد الموت بيّنه بقوله تعالى:
﴿وحرام﴾ أي: ممنوع ﴿على قرية﴾ أي: أهلها ﴿أهلكناها﴾ أي: بالموت ﴿أنهم لا يرجعون﴾ أي: إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحباس بل إلينا بموتهم راجعون فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً أو عذاباً دون النعيم والعذاب الأكبر.
تنبيه: ما قدّرناه في الآية هو ما جرى عليه البقاعيّ والذي قدّره الزمخشري أنَّ معنى أهلكناها عزمنا على إهلاكها، أو قدّرنا إهلاكها، ومعنى الرجوع الرجوع من الكفر إلى الإسلام والإنابة، فتكون لا مزيدة والذي قدّره الجلال المحلي أنّ لا زائدة أي: يمتنع رجوعهم إلى الدنيا فيكون الإهلاك بالموت، وهذا قريب مما قاله ابن عباس فإنه قال: وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك، فجعل لا زائدة قال البغويّ وقال آخرون: الحرام بمعنى الواجب، فعلى هذا يكون لا ثابتاً ومعناه واجب على أهل قرية أهلكناهم أي: حكمنا بهلاكهم أن لا تتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون والدليل على هذا المعنى أنه تعالى قال في الآية التي قبلها: ﴿ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه﴾ أي: يتقبل عمله، ثم ذكر هذه الآية عقبه وبين أنّ الكافر لايتقبل عمله انتهى والذي قدّره البيضاوي قريب مما قدّره الزمخشري وكل هذه التقادير صحيحة؛ لكن الأوّل أظهر، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بكسر الحاء وسكون الراء والباقون بفتح الحاء والراء وألف بعد الراء
وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك فكذلك غداهم فريقان، فريق هم أهل اللقاء وفريق هم أهل البلاء والشقاء.
ورى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله فقال: للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يده اليسرى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم، إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة، فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذن؟ فقال: اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ: عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ: عمل ثم قال ﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾ عدل من الله تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.
﴿ولو شاء الله﴾ أي: المحيط بجميع أوصاف الكمال ﴿لجعلهم﴾ أي: المجموعين ﴿أمة واحدة﴾ للثواب أو للعذاب، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء أن يكونوا فريقين مقسطين وظالمين ليظهر فضله وعدله وأنه إله جبار واحد قهار لا يبالي بأحد، وهو معنى قوله تعالى ﴿ولكن يدخل من يشاء﴾ إدخاله ﴿في رحمته﴾ بخلق الهداية في قلبه فتكون أفعالهم في مواضعها وهم المقسطون، ويدخل من يشاء في نقمته بخلق الضلالة في قلوبهم فيكونوا ظالمين فلا تكون أفعالهم في مواضعها، فالمقسطون ما لهم من عدو ولا نكير ﴿والظالمون﴾ أي: العريقون في الظلم الذين ساء ظلمهم وهم الكافرون فيدخلهم في لعنته ﴿ما لهم من ولي﴾ أي: يلي أمورهم فيجتهد في صلاحها فيدفع عنهم العذاب ﴿ولا نصير﴾ ينصرهم من الهوان فيمنعهم من النار، وعلى هذا التقدير: فالآية من الاحتباك وهو ظاهر ذكر الرحمة أولاً دليلاً على اللعنة ثانياً، والظلم وما معه ثانياً دليلاً على أضداده أولاً، وهذا تقدير لقوله تعالى: ﴿الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل﴾ أي: أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان ولو شاء الله تعالى لفعله لأنه أقدر منك، لكنه تعالى جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً.
ولما حكى الله تعالى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال لنبيه محمد ﷺ ﴿لست عليهم بوكيل﴾ أي: لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان، فإن الله تعالى لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الإنكار بقوله تعالى:
﴿أم اتخذوا من دونه أولياء﴾ كالأصنام وهذه أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال، وبهمزة الإنكار أو بالهمزة فقط أو ببل فقط أي: ليس المتخذون أولياء ﴿فالله﴾ أي: المختص بصفات الكمال ﴿هو﴾ وحده ﴿الولي﴾ قال ابن عباس: وليك يا محمد وولي من اتبعك، والفاء: جواب الشرط المقدر كأنه قال: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي لا ولي سواه، وقيل: هي لمجرد العطف وجرى على هذا الجلال المحلي، وعلى الأول الزمخشري ﴿وهو﴾ أي: ومن شأن هذا الولي ﴿يحيي الموتى﴾
الأكبر وما بينهما اعتراض.
﴿إن إلينا﴾، أي: خاصة بما لنا من العظمة ﴿إيابهم﴾، أي: رجوعهم بعد البعث.
﴿ثم إنّ علينا﴾، أي: خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا ﴿حسابهم﴾، أي: جزاءهم فلا نتركه أبداً، وفي هذا تسلية للنبيّ ﷺ فإنه كان يشق عليه تكذيبهم.
فإن قيل: ما معنى تقديم الظرف؟ أجيب: بأنّ معناه التشديد في الوعيد، وإنّ إيابهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع.
سورة الفجر
مكية
وقيل: مدنية وهي تسع وعشرون آية وقيل: ثلاثون آية ومائةوتسع وثلاثون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الملك المعبود ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ خلقه بالكرم والجود ﴿الرحيم﴾ الذي سدّد أهل عنايته بفضله فهو الحليم الودود.
وقوله تعالى: ﴿والفجر﴾، أي: فجر كل يوم قسم كما أقسم بالصبح في قوله تعالى: ﴿والصبح إذا أسفر﴾ (المدثر: ٣٤)
﴿والصبح إذا تنفس﴾ (التكوير: ١٨)
وقال قتادة: هو فجر أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، وقيل: ذلك على مضاف محذوف، أي: وصلاة الفجر. وقيل: ورب الفجر وتقدّم أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، واختلف في قوله تعالى:
﴿وليال عشر﴾ فقال مجاهد وقتادة: هو عشر ذي الحجة. وقال الضحاك: هو العشر الأوّل من رمضان. وعن ابن عباس: أنه العشر الأخير من رمضان. وعن يمان بن رباب هو العشر الأوّل من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم. فإن قيل: لم ذكر الليالي من بين ما أقسم به؟ أجيب: بأنّ ذلك للتعظيم.
﴿والشفع﴾، أي: الزوج ﴿والوتر﴾، أي: الفرد، وقيل: الشفع الخلق كلهم قال الله تعالى: ﴿وخلقناكم أزواجاً﴾ (النبأ: ٨)
والوتر هو الله تعالى. قاله أبو سعيد الخدري. وقال مجاهد ومسروق: الشفع الخلق كله، قال الله تعالى: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين﴾ (الذاريات: ٤٩)
الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والوتر هو الله تعالى ﴿قل هو الله أحد﴾ (الإخلاص: ١)
. وقال قتادة: هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. روى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعاً وعن ابن عباس الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. وقال الحسين بن الفضل: الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع دركات. سئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوّة والضعف، والعلم والجهل، والبصر والعمى. والوتر انفراد صفات الله سبحانه وتعالى عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوّة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. وعن عكرمة الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر، واختاره النحاس وقال هو الذي صح عن النبيّ ﷺ فيوم عرفة وتر لأنه تاسعها ويوم النحر شفع لأنه عاشرها.


الصفحة التالية
Icon