بني إسرائيل يقال له: حسبان، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت، فنزل عنها وضربها فقامت، فركبها فلم تسر به كثيراً حتى ربضت، فضربها فأذن الله تعالى لها في الكلام وأنطقها له فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي؟ ويحك أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين فتدعو عليهم؟ فلم ينزجر فخلى الله تعالى سبيل الأتان، فانطلقت به حتى أشرف على جبل حسبان، فجعل يدعو عليهم فلا يدعو بشر إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله تعالى به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، فقال: هذا ما لا أملكه هذا شيء قد غلب الله عليه، فاندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهب الآن مني الدنيا
والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، احملوا النساء وزينوهنّ وأعطوهنّ السلع، ثم أرسلوهنّ إلى عسكر بني إسرائيل يبعنها فيه، ومروهنّ أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنه إن زنا رجل بواحدة كفيتموهم، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرّت امرأة من الكنعانيين على رجل من عظماء بني إسرائيل وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب فقام إلى المرأة وأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف على موسى وقال: إني لأظنك أن تقول هذه حرام عليك، قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فو الله لا نطيعك، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله تعالى عليهم الطاعون في الوقت فهلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من النهار
وقيل: الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت كان قد قرأ الكتب وعلم أنّ الله تعالى يرسل رسولاً في ذلك الزمان ورجا أن يكون هو فلما بعث الله محمداً ﷺ حسده وكفر به.
وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ ﷺ كما يعرفون أبناءهم، وقيل: إنها نزلت في البسوس وهو رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات وكان له امرأة وكان له منها أولاد فقالت له: اجعل لي منها دعوة فقال لها: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فصارت أجمل النساء في بني إسرائيل فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل أجمل منها رغبت عنه فغضب ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة وقد عيرنا الناس ادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليها فدعا الله تعالى فعادت كما كانت فذهب فيها الدعوات كلها وقيل غير ذلك، ويدل للقول الأوّل قوله تعالى:
﴿ولو شئنا لرفعناه﴾ أي: منازل الأبرار ﴿بها﴾ أي: بسبب تلك الآيات ﴿ولكنه أخلد إلى الأرض﴾ أي: مال إلى الدنيا، قال البيضاوي: أو السفالة، قال الجوهري: السفالة بالضم نقيض العلو، وبالفتح النذالة ﴿واتبع هواه﴾ أي: في آثار الدنيا، واسترضى قومه، وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى، ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيهاً على أنّ المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأنّ عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأنّ السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من هذه الأسباب وسايط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك.
إلى الله تعالى ليجازيكم على ما كان منكم لا ينسى منه نقير ولا قطمير
﴿يوم ترونها﴾ أي: الزلزلة أو الساعة، أو كل مرضعة أضمرها قبل الذكر تهويلاً للأمر، وترويعاً للنفس ﴿تذهل﴾ بسبب ذلك ﴿كل مرضعة﴾ أي: بالفعل أي: تنسى وتغفل حائرة مدهوشة، والعامل في يوم تذهل.
فإن قيل: لم قال تعالى: ﴿مرضعة﴾، ولم يقل: مرضع؟ أجيب: بأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للطفل والمرضع التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وضعها، فقال: مرضعة ليدل على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت ثديها تنزعه من فيه لما يلحقها من الدهشة ﴿عما أرضعت﴾ عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، فما إمّا مصدرية أو موصولة ﴿وتضع كل ذات حمل حملها﴾ أي: تسقطه قبل التمام رعباً وفزعاً.
تنبيه: هذا ظاهر على القول الثاني وهو قول علقمة والشعبيّ على أنّ ذلك يكون عند طلوع الشمس من مغربها، وأمّا على القول الأوّل وهو قول الحسن على أنّ ذلك يوم القيامة كيف يكون ذلك؟ فقيل: هو تصوير لهولها، قاله البيضاوي، وقال البقاعي في المرضعة: هي من ماتت مع ابنها رضيعاً، وفي ذات الحمل: من ماتت حاملاً، فإنّ كل أحد يقوم على ما مات عليه، وهذا أولى فإني في حال كتابتي في هذا المحل حضر عندي سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته، فذكرت له هذين القولين، فانشرح صدره لترجيح هذا الثاني، وذلك يوم تاسوعاء من شهر الله المحرّم سنة ست وخمسين وتسعمائة، وعن الحسن تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام.
ويؤيد أنّ هذه الزلزلة تكون بعد البعث ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله ﷺ «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك ـ زاد في رواية والخير في يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار؛ قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تضع الحوامل حملها، ويشيب الوليد وساق بقية الآية»، وهي ﴿وترى الناس سكارى﴾ أي: لما هم فيه من الدهشة والحيرة، ثم بيّن الله تعالى أنّ ذلك ليس بسكر حقيقة بقوله تعالى: ﴿وما هم بسكارى﴾ أي: من الشراب، ولما نفى أن يكونوا سكارى من الشراب أثبت ما أوجب لهم تلك الحالة بقوله: ﴿ولكنّ عذاب الله﴾ ذي العزة والجبروت ﴿شديد﴾ فهو الذي أوجب أن يظن بهم السكر؛ لأنّ هوله أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم، تم الحديث عند آخر الآية، «فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم زاد في رواية قالوا: يا رسول الله أيّنا ذلك الواحد، فقال رسول الله ﷺ من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار، وإني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: ثلث أهل الجنة، فكبّرنا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبّرنا»، وفي رواية: «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة».
روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً، فنادى رسول الله ﷺ فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله ﷺ فقرأهما رسول الله ﷺ عليهم فلم نرَ أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا
في التناقص والانقضاء.
قال الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف مريد الدنيا ومريد الآخرة ومريد الحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدنيا مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله تعالى كما قال تعالى: ﴿يريدون وجهه﴾ (الكهف: ٢٨)
فطرح الكونين والعزلة عن الخلق والخلاص من يد النفس انتهى. وحاصله: أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار بل امتثالاً لأجل الملك الأعلى لأنه أهل لذلك، مع اعترافه بأنه لن يقدر الله تعالى حق قدره.
ولما بين تعالى أعمال الآخرة والدنيا أتبعه بيان ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال تعالى:
﴿أم﴾ أي: بل ﴿لهم﴾ أي: كفار مكة ﴿شركاء﴾ أي: على زعمهم وهم شياطينهم ﴿شرعوا﴾ أي: سنوا بالتزيين ﴿لهم﴾ أي: الكفار ﴿من الدين﴾ أي: الفاسد في العبادات والعادات ﴿ما لم يأذن به الله﴾ أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء لله، ولما كانت سبباً لضلالهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام ﴿رب إنهن أضللن كثيراً من الناس﴾ (إبراهيم: ٣٦)
وقال ابن عباس: شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام ﴿ولولا كلمة الفصل﴾ أي: القضاء السابق بتأخير الجزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة ﴿لقضي بينهم﴾ أي: بين الذين امتثلوا أمره والتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت، ولكنه قد سبق القضاء في الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة فهي تجري على ما حد لها لا يتقدم شيء منها ولا يتاخر ولا يتبدل ولا يتغير وستنكشف لهم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق القضاء ﴿وإن الظالمين﴾ بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره ﴿لهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم بليغ إيلامه، ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب مبتدئاً بالأول منهما بقوله تعالى:
﴿ترى﴾ أي: في ذلك اليوم ﴿الظالمين﴾ أي: الواضعين الأشياء في غير مواضعها ﴿مشفقين﴾ أي: خائفين أشد الخوف كما هو الحال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر ﴿مما كسبوا﴾ أي: عملوا معتقدين أنه غاية ما ينفعهم ﴿وهو﴾ أي: جزاؤه ووباله الذي من جنسه حتى كأنه هو ﴿واقع بهم﴾ لا محالة سواء أشفقوا أم لم يشفقوا، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى: ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وهي التي أذن الله تعالى فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه ﴿في روضات الجنات﴾ أي: في الدنيا بما يلذذهم به الله تعالى من لذائذ الأقوال والأفعال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال، وروضة الجنة أطيب بقعة فيها، وفيه تنبيه على أن عصاة المؤمنين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي: البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله تعالى: ﴿لهم ما يشاؤون عند ربهم﴾ يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده
عنهما: على صاحبك وجسدك. وقال الحسن: إلى ثواب ربك. ﴿راضية﴾، أي: بما أوتيته ﴿مرضية﴾، أي: عند الله تعالى بعملك، أي: جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، وهما حالان. قال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهرة فهو خبر في المعنى، والتقدير: أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر.
﴿فادخلي في﴾، أي: في جملة ﴿عبادي﴾، أي: الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها.
﴿وادخلي جنتي﴾، أي: معهم، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد: «قرأ رجل عند النبيّ ﷺ هذه الاية فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له: إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر». وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الاية على شفير القبر لا يدرى من تلاها ﴿يا أيتها النفس﴾ الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب. قال الزمخشري: والظاهر العموم. وقول البيضاوي تبعاً له أنّ رسول الله ﷺ قال: «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة البلد
مكية
وهي عشرون آية واثنان وثمانون كلمة وثلاثمائة وعشرون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الملك الذي لا راد لأمره ﴿الرحمن﴾ الذي عم سائر خلقه بفضله ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل طاعته بجنته.
واختلف في لا في قوله تعالى: ﴿لا أقسم﴾ فقال الأخفش: إنها مزيدة، أي: أقسم كما تقدّم في قوله تعالى: ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾ (القيامة: ١)
وقد أقسم به سبحانه وتعالى. قال الشاعر: ﴿ {

*تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع*
أي: يتقطع، ودخل حرف لا صلة، وكقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد﴾ (الأعراف: ١٢)
وقد قال تعالى في ص: ﴿ما منعك أن تسجد﴾ وأجاز الأخفش أيضاً أن تكون بمعنى إلا. وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، حكاه مكي. وأجمعوا على أن المراد بالبلد في قوله تعالى: ﴿بهذا البلد﴾، أي: الحرام وهو مكة، وفضلها معروف فإنه تعالى جعلها حرماً آمناً. وقال تعالى: ﴿ومن دخله كان آمناً﴾ (آل عمران: ٩٧)
وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب. فقال تعالى: ﴿وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾ (البقرة: ١٤٤)
وأمر الناس بحج البيت فقال تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع﴾ (آل عمران: ٩٧)
وقال تعالى: ﴿وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً﴾ (البقرة: ١٢٥)
وقال تعالى: ﴿وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت﴾ (الحج: و٢٦)
وقال تعالى: ﴿وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق﴾ (الحج: ٢٧)
وشرف مقام إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى {واتخذوا من


الصفحة التالية
Icon