الخلق، وقيل: لا يعلمون أنّ علمها عند الله وإنه استأثر بعلم ذلك حتى لا يسألوا عنه.
وروي أنّ أهل مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيصة قبل أن يغلو فنشتريه ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت، فأنزل الله تعالى:
لهم ﴿لا أملك لنفسي نفعاً﴾ اجتلاب نفع بأن أربح فيما أشتريه ﴿ولا ضرّاً﴾ أي: ولا أقدر أدفع عن نفسي ضرّاً نزل بها بأن أرتحل إلى الأرض الخصبة أو من الأرض الجدبة ﴿إلا ما شاء الله﴾ من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له.
وقيل: إنه ﷺ لما رجع من غزوة بني المصطلق عصفت ريح في الطريق ففرّت الدواب منها فأخبر النبيّ ﷺ بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيها غيظ للمنافقين وقال ﷺ «انظروا أين ناقتي» فقال عبد الله بن أبيّ المنافق مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولم يعرف أين ناقته؟ فقال ﷺ إنّ ناساً من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة فوجدوها على ما قال ﷺ فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ولو كنت﴾ أي: من ذاتي ﴿أعلم الغيب﴾ أي: جنسه ﴿لاستكثرت﴾ أي: أوجدت لنفسي كثيراً ﴿من الخير وما مسني السوء﴾ أي: ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع، ويدخل فيه ما يتصل بالخصب واجتناب المضارّ حتى لا يمسني سوء ﴿إن﴾ أي: ما ﴿أنا إلا نذير﴾ بالنار للكافرين ﴿وبشير﴾ بالجنة ﴿لقوم يؤمنون﴾ أي: يصدّقون، وقيل: لقوم يؤمنون متعلق بنذير وبشير؛ لأنهم المنتفعون بهما ﴿هو الذي خلقكم﴾ أي: ولم تكونوا شيئاً ﴿من نفس واحدة﴾ أي: خلقها ابتداء من تراب، وهي آدم عليه السلام ﴿وجعل منها﴾ أي: من جسدها من ضلع من أضلاعها، وقيل: من جنسها لقوله تعالى: ﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ (الشورى، ١١)
﴿زوجها﴾ أي: حوّاء، قالوا: والحكمة في كونها خلقت منه أنّ الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضمّ ﴿ليسكن إليها﴾ أي: ليأنس بها ويطمئن إليها إطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير في يسكن بعد أن أنث في قوله تعالى: ﴿من نفس واحدة﴾ ذهاباً إلى معنى النفس ليناسب تذكير الضمير في قوله تعالى: ﴿فلما تغشاها﴾ أي: جامعها، ولئلا يوهم لو أنثه نسبة السكون إلى الأنثى، والأمر بخلافه إزالة لاستيحاشه، فكانت نسبة المؤانسة إليه أولى ﴿حملت حملاً خفيفاً﴾ أي: خف عليها ولم تلق منه ما يلقى الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة ﴿فمرّت به﴾ أي: فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت ولم يعقها عن شيء من ذلك لخفته ﴿فلما أثقلت﴾ أي: صارت ذا ثقل بكبر الولد في بطنها ﴿دعوا الله﴾ أي: آدم وحوّاء عليهما السلام ﴿ربهما﴾ مقسمين ﴿لئن آتيتنا صالحاً﴾ أي: ولداً سوياً لا عيب فيه ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي: نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوّزا أن يكون غير سوي لقدرة الله تعالى على كل ما يريد لأنه الفاعل المختار.
فائدة: اتفق القراء على إدغام تاء التأنيث الساكنة في الدال.
﴿فلما آتاهما صالحاً﴾ أي: جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوّة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً ﴿جعلا﴾ أي: النوعان من أولادهما الذكور والإناث؛ لأنّ صالحاً صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى
نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم قال المسلمون كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا ﷺ خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم، وعن ابن عباس أنها نزلت كذلك لكن قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم بين يديكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد ﷺ وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنكم تعرفون نبينا وكتابنا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم، وقيل: المؤمنون والكافرون من أيّ ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم، وقيل: الخصمان الجنة والنار لما روي عن أبي هريرة أنه قال «قال رسول الله ﷺ تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من
عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها»
وعن عكرمة فقالت النار خلقني الله لعقوبته وقال الجنة خلقني الله لرحمته وهذا القول بعيد عن لاسياق لأنّ الله تعالى ذكر جزاء الخصمين بقوله تعالى: ﴿فالذين كفروا﴾ وهو الفصل بينهم المعني بقوله تعالى: ﴿إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة﴾ ﴿قطعت﴾ أي: قدّرت ﴿لهم﴾ على تقادير جثثهم ﴿ثبات من نار﴾ أي: نيران تحيط بهم إحاطة الثياب سابغة عليهم كما كانوا يسبلون الثياب في الدنيا تفاخراً وتكبراً وعن إبراهيم التيمي أنه قال: سبحان من قطع من النار ثياباً. وعن سعيد بن جبير قال: قطعت من نحاس وليس من الآنية شيء إذا حمى أشدّ حرارة منه. وقال في قوله: ﴿يصبّ﴾ أي: ادخلوها ﴿من فوق رؤوسهم الحميم﴾ قال ابن النحاس يذاب على رؤوسهم ولكن المشهور أنه الماء الحار وعن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، والجملة حال من الضمير في لهم، أو خبر ثان وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا في الوصل، فإن وقف على رؤوسهم فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم وحمزة على أصله في الوقف على رؤوسهم بتسهيل الهمزة ﴿يصهر﴾ أي: يذاب ﴿به﴾ من شدّة حرارته ﴿ما في بطونهم﴾ من شحم وغيره ﴿والجلود﴾ فيكون أثره في الباطن والظاهر سواء وقال ابن عباس يسقون ماء إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون ﴿ولهم مقامع﴾ جمع مقمعة بكسر ثم فتح وهو عمود حديد وقيل: سوط يضرب به الوجه والرأس ليردّ المضروب عن مراده ردّا عنيفاً ثم نفي المجاز بقوله تعالى: ﴿من حديد﴾ أي: يقمعون بها روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال لو أنّ مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان ﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها﴾ أي: من تلك الثياب أو من النار ﴿من غمّ﴾ أي: كلما حاولوا الخروج من النار
لما يلحقهم
من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفسهم ﴿أعيدوا فيها﴾ أي: ردّوا إليها بالمقامع، وعن الحسن أنهم يضربون بلهب النار فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفاً، وعن الفضيل بن عياض قال: والله ما طمعوا في الخروج لأنّ الأرجل مقيدة والأيدي
السفن الجارية ﴿في البحر كالأعلام﴾ أي: كالجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها صخر:

*وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار*
أي: جبل في رأسه نار شبهت به أخاها. روي أن النبي ﷺ «استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي هذا البيت قال: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت في رأسه ناراً». وقال مجاهد: الأعلام القصور وأحدها علم، وقال الخليل بن أحمد: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم.
فإن قيل: الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها امتنع حذف الموصوف فلا تقول: مررت بماش لأن المشي عام وتقول: مررت بمهندس وكاتب والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟ أجيب: بأن قوله تعالى: ﴿في البحر﴾ قرينة دالة على الموصوف، فذلك حذف ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق فوليت العوامل من دون موصوفها، وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير وهشام بإثباتها وقفاً بخلاف عن هشام الباقون بحذفها وقفاً ووصلاً وأمال الجواري محضة الدوري عن الكسائي وفتح الباقون.
﴿أن يشأ﴾ أي: الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة ألفكم لها ﴿يسكن الريح﴾ الذي يسيرها وأنتم مقرون بأن أمرها ليس إلا بيده، وقرأ نافع بألف بعد الياء جمعاً والباقون بغير ألف إفراداً ﴿فيظللن﴾ أي: فيتسبب عن ذلك أنهن يظللن أي: يقمن ليلاً كان أو نهاراً ﴿رواكد﴾ أي: ثوابت لا تجري ﴿على ظهره﴾ أي: البحر ﴿إن في ذلك﴾ أي: ما ذكر في حال السفن في سيرها وركوبها بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه ﴿لآيات﴾ أي: على إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال ﴿لكل صبارٍ﴾ أي: على البلاء والشدة ﴿شكور﴾ أي: على نعمائه وهو المؤمن الكامل يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء فإن الإيمان نصفان؛ نصف: صبر، ونصف: شكر.
﴿أو﴾ أي: أو يشأ في كل وقت أراده ﴿يوبقهن﴾ أي: يهلكهن بعصف الريح بأهلهن ﴿بما كسبوا﴾ أي: أهلهن من الذنوب ﴿ويعفو﴾ أي: إن يشأ ﴿عن كثير﴾ من ذنوبهم فلا يعاقب فينجيهم بعوم أو حمل على خشبة أو غير ذلك، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة وقوله تعالى:
﴿ويعلم﴾ قرأه نافع وابن عامر برفع الميم مستأنفاً والباقون بالنصب معطوف على تعليل مقدر أي: ليغرقهم لينتقم منهم وليعلم ﴿الذين يجادلون﴾ أي: عند النجاة بالعفو ﴿في آياتنا﴾ أي: يكذبون القرآن، أي: علم ظهور للناس ﴿ما لهم من محيص﴾ أي: مهرب من العذاب وجملة النفي سدت مسد مفعولي يعلم أو النفي معلق عن العمل، وقوله تعالى:
﴿فما أوتيتم﴾ خطاب للمؤمنين وغيرهم ﴿من شيء﴾ أي: من أثاث الدنيا ﴿فمتاع الحياة الدنيا﴾ أي: القريبة الدنية لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله تعالى ﴿وما﴾ أي: والذي ﴿عند الله﴾ أي: الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين ﴿خير﴾ أي: في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعه فسماه متاعاً تنبيها على قلته وحقارته، وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه وأما
في وعيدهم بالعذاب ﴿فعقروها﴾، أي: عقرها الأشقى بسبب ذلك التكذيب، وأضيف إلى الكل؛ لأنهم رضوا بفعله، وإن كان العاقر جماعة فواضح. وقال قتادة: بلغنا إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. وقال الفرّاء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم ولهذا لم يقل أشقياها.
﴿فدمدم﴾ أي فأطبق ﴿عليهم ربهم﴾، أي: الذي أحسن إليهم فغمرهم إحسانه فقطعه عنهم بسبب تكذيبهم فأهلكهم وأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدمت عليه القبر أطبقته عليه ﴿بذنبهم﴾، أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم وعقرهم الناقة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ﴿دمدم عليهم ربهم بذنبهم﴾، أي: بجرمهم. وقال القشيري: وقيل: دمدمت على الميت التراب، أي: سوّيته عليه. فالمعنى على هذا: فجعلهم تحت التراب، ﴿فسوّاها﴾، أي: فسوّى عليهم الأرض فجعلهم تحت التراب وعلى الأوّل فسوّى الدمدمة عليهم، أي: عمهم بها فلم يفلت منهم أحداً.
وقرأ ﴿ولا يخاف﴾ نافع وابن عامر بالفاء، والباقون بالواو فالفاء تقتضي التعقيب، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون للاستئناف الإخباري. وضمير الفاعل في يخاف الأظهر عوده على الله تعالى؛ لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس، ويؤيده قراءة الفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية والهاء في قوله تعالى: ﴿عقباها﴾ ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحقَ. وكل من فعل فعلاً يحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.
وقيل: المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك. وقيل: المعنى أنه تعالى بالغ في الإنذار إليهم مبالغة كمن لا يخاف عاقبة عذابهم. وقيل: يرجع ذلك إلى رسولهم صالح عليه السلام، أي: لا يخاف عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم ونجاه الله وأهلكهم. وقال السدّي: يرجع الضمير إلى أشقاها، أي: انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء.
وقرأ الكسائي جميع رؤوس آي هذه السورة بالإمالة محضة، وقرأها أبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وأمال حمزة مثل الكسائي إلا تلاها وضحاها ففتحهما، والباقون بالفتح واتفقوا على فتح فعقروها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» حديث موضوع.
سورة والليل مكية
وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف
﴿بسم الله﴾ الملك الحق المبين ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ رزقه العالمين ﴿الرحيم﴾ الذي خص بجنته المؤمنين.
وقوله تعالى: ﴿والليل﴾، أي: الذي هو آلة الظلام ﴿إذا يغشى﴾ قسم. وقد مرّ الكلام على ذلك، ولم يذكر تعالى مفعولاً للعلم به، فقيل: يغشى بظلمته كل ما بين السماء والأرض، وقيل: يغشى النهار، وقيل: الأرض، وقيل: الخلائق. قال قتادة: أوّل ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصراً.
وقوله تعالى: ﴿والنهار﴾، أي: الذي هو سبب انكشاف الأمور ﴿إذا تجلى﴾، أي: تكشف وظهر قسم آخر. قال الرازي: أقسم بالليل الذي يأوي


الصفحة التالية
Icon