من يوم بدر.
﴿إذ﴾ أي: واذكر إذ ﴿يقول المنافقون﴾ أي: من أهل المدينة، والمنافق هو من يظهر الإسلام ويخفي الكفر كما أنّ المرائي هو من يظهر الطاعة ويخفي المعصية ﴿والذين في قلوبهم مرض﴾ أي: شك وارتياب، وهم قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يقع الإسلام في قلوبهم ولم يتمكن، فلما خرج قريش إلى حرب رسول الله ﷺ خرجوا معهم إلى بدر، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا: ﴿غرّ هؤلاء﴾ المسلمين ﴿دينهم﴾ إذ خرجوا مع قلتهم يقاتلون الجمع الكثير توهماً أنهم ينصرون بسببه، فقتلوا جميعاً منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وعديّ بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن أمية بن الحجاج، قال تعالى في جوابهم: ﴿ومن يتوكل على الله﴾ أي: يثق به يغلب ﴿فإنّ الله عزيز﴾ أي: غالب على أمره ﴿حكيم﴾ أي: في صنعه يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن إدراكه.
ولما شرح تعالى أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت بقوله تعالى:
﴿ولو ترى﴾ أي: عاينت وشاهدت يا محمد ﴿إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة﴾ أي: بقبض أرواحهم عند الموت ﴿يضربون وجوههم وأدبارهم﴾ أي: ظهورهم وأستاههم، قال البيضاويّ: ولعلّ المراد تعميم الضرب أي: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر بمقامع من حديد ﴿و﴾ يقولون لهم: ﴿ذوقوا عذاب الحريق﴾ أي: النار.
قال ابن عباس: كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولوا ضربوا أدبارهم، فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح، وجواب لو محذوف، والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعقاباً شديداً، والملائكة مرفوع بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله: يتوفى ضمير الله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر.
﴿ذلك﴾ أي: الذي نزل بكم من القتل والضرب والحريق ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿قدّمت﴾ أي: كسبت ﴿أيديكم﴾ من الكفر والمعاصي، وإنما عبر بالأيدي دون غيرها لأنّ أكثر الأفعال تزاول بها والتحقيق إنّ الإنسان جوهر واحد وهو الفعال وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع وهو العاصي وهذه الأعضاء آلة له وأدوات في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان ﴿وأنّ الله ليس بظلام للعبيد﴾ فلا يعذب أحداً من خلقه بغير ذنب وظلام للتكثير لأجل العبيد أي: أنه بمعنى ذي ظلم.
﴿كدأب﴾ أي: دأب هؤلاء الكفار بكفرهم مثل دأب ﴿آل فرعون﴾ وهو عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي: داموا عليه فجوزي هؤلاء بالقتل والأسر يوم بدر كما جوزي آل فرعون بالإغراق، وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال: فلان دأب في كذا أي: داوم عليه وسميت العادة دأباً لأنّ الإنسان مداوم على عادته مواظب عليها ﴿والذين من قبلهم﴾ أي: من قبل آل فرعون وقوله تعالى: ﴿كفروا بآيات الله﴾ تفسير لدأب آل فرعون ﴿فأخذهم الله بذنوبهم﴾ أي: بسبب كفرهم كما أخذ هؤلاء ﴿الله الله قويّ﴾ أي: على ما يريده فينتقم ممن كفر وكذب رسله ﴿شديد العقاب﴾ ممن كفر وكذب رسله وقوله تعالى:
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما حلّ بهم من العقاب ﴿بأن﴾ أي:
ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها.
﴿وعليها﴾ أي: الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر، وقيل: المراد الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى: ﴿وعلى الفلك تحملون﴾ لأنها سفائن البر، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى:
*سفينة بر تحت خدي زمامها
قال الزمخشري: يريد صيدحه أي: ناقته؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال:
*رأيت الناس ينتجعون غيثاً
... فقلت لصيدح انتجعي بلالا
يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة، ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئاً بقصة نوح عليه السلام، فقال تعالى:
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿نوحاً﴾ وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسلام، وكان اسمه يشكر، وسمي نوحاً لوجوه: أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، فندم على ذلك، ثانيها: لمراجعته ربه في شأنّ ابنه، ثالثها: أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. ﴿إلى قومه﴾ وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد ﷺ وعلى جميع الأنبياء ﴿فقال﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنّ قال ﴿يا قوم﴾ ترفقاً بهم ﴿اعبدوا الله﴾ وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال، واستأنف على سبيل التعليل قوله: ﴿ما لكم من إله﴾ أي: معبود بحق ﴿غيره﴾ فلا تعبدوا سواه ﴿أفلا تتقون﴾ أي: أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء، والباقون بضمهما.
﴿فقال﴾ أي: فتسبب عن ذلك أنّ كذبوه بأنّ قال ﴿الملأ﴾ أي: الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة ﴿الذين كفروا من قومه﴾ لعوامهم ﴿ما هذا﴾ أي: نوح عليه السلام ﴿إلا بشر مثلكم﴾ أي: فلا يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أنّ يكون بعض البشر نبياً، ولم ينكروا أنّ يكون بعض الطين إنساناً وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة إلى آخره، فكأنه قيل: ما حمله على ذلك فقالوا: ﴿يريد أنّ يتفضل﴾ يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا ﴿عليكم﴾ لتكونوا أتباعاً له ولا خصوصية له دونكم ﴿ولو شاء الله﴾ أي: الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره ﴿لأنزل﴾ كذلك ﴿ملائكة﴾ رسلاً بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري: وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للألوهية بحجر ﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي: الذي دعا إليه نوح من التوحيد ﴿في آبائنا الأولين﴾ أي: الأمم الماضية.
﴿إن﴾ أي: ما ﴿هو إلا رجل به جنة﴾ أي: جنون ولأجله يقول ما يدعيه ﴿فتربصوا به﴾ أي: فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه ﴿حتى﴾ أي: إلى ﴿حين﴾ لعله يفيق أو يموت، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل:
﴿قال﴾ عندما أيس من فلاحهم ﴿رب انصرني﴾ أي: أعني عليهم ﴿بما كذبون﴾ أي: بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.
﴿فأوحينا﴾ أي: فتسبب عن دعائه أنّ أوحينا ﴿إليه أنّ اصنع الفلك﴾ أي: السفينة ﴿بأعيننا﴾ أي: إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك
الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها، ثم قال: وقد تمحل الناس بما أخرجوه من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه، وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقال ابن عباس: إن أن نافية أي: ما كان له ولد فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ولو كان له ولد إله لعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده، وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: إن الملائكة بنات الله تعالى فنزلت فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال:
﴿سبحان رب﴾ أي: مبدع ومالك ﴿السموات والأرض﴾ أي: اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية.
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له، ولم يعد العطف لأن العرش من السموات ﴿رب العرش﴾ أي: المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السموات والأرض ﴿عما يصفون﴾ أي: يقولون من الكذب من أن له ولداً أو شريكاً وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكل ما كان كذلك فهو لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيمن تكون ذاته قابلة للتجزي والتبعيض، وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد.
ولما ذكر تعالى هذا البرهان القاطع قال تعالى مسبباً عن ذلك:
﴿فذرهم﴾ أي: اتركهم على أسوأ أحوالهم ﴿يخوضوا﴾ أي: يفعلوا في باطلهم فعل الخائض في الماء ﴿ويلعبوا﴾ أي: يفعلوا فعل اللاعب في دنياهم ﴿حتى يلاقوا﴾ أي: يفعلوا بتصرم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا ﴿يومهم الذي يوعدون﴾ أي: بوعد لا خلف فيه وهو يوم القيامة فيظهر فيه وعيدهم والمقصود منه التهديد لأنه تعالى ذكر الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا فلم يلتفتوا إليها لأجل استغراقهم في طلب المال والجاه والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود به ثم زاد في التنزيه فقال تعالى:
﴿وهو الذي في السماء إله﴾ أي: معبود لا شريك له ﴿وفي الأرض إله﴾ تتوجه الرغبات إليه في جميع الأحوال وتخلص إليه في جميع أوقات الاضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في هذا الاستحقاق فعبادة غيره باطلة، وقرأ قالون والبزي بتسهيلها مع المد والقصر، وقرأ أبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل
حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة» :﴿فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره﴾. وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت: أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال: حسبي قد انتهت الموعظة.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿يره﴾ جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء يره وصلاً في الحرفين، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ «من قرأ إذا زلزلت أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كله»، رواه الثعلبي بسند ضعيف لكن يشهد له ما رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن».
سورة والعاديات مكية
في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل ﴿الرحمن﴾ الذي نعمته أتم نعمة وأشمل ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
وقوله سبحانه وتعالى:
﴿والعاديات ضبحاً﴾ قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة:
*والخيل تكدح حين تض | بح في حياض الموت ضبحا* |
وعن ابن عباس: كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليّ رضي الله عنه، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قال الزمخشري: فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك. قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس.
ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفاً بأداة التعقيب:
{فالموريات قدحاً﴾ قال عكرمة والضحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لا سيما عند سلوك الأوعار، وقدحاً منصوب لما انتصب به ضبحاً. قال