لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأهل والأوطان. @
وأشار تعالى إلى القسمين بأداة البعد لعلوّ مقامهم فقال: ﴿أولئك﴾ أي: العالو الرتبة ﴿بعضهم أولى ببعض﴾ أي: دون أقاربهم من الكفار قال ابن عباس في الميراث فكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث كانوا وصار ذلك منسوخاً بقول تعالى ﴿وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله﴾ ﴿والذين آمنوا ولم يهاجروا﴾ أي: آمنوا وأقاموا بمكة ﴿ما لكم من ولايتهم من شيء﴾ أي: فلا إرث بينكم وبينهم ولا نصيب لهم في الغنيمة ﴿حتى يهاجروا﴾ أي: إلى المدينة ﴿وإن استنصروكم في الدين﴾ أي: ولم يهاجروا ﴿فعليكم النصر﴾ أي: فيجب عليكم أن تنصروهم على المشركين ﴿إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ أي: عهد فلا تنصروهم عليهم وتنقضوا عهدهم ﴿وا بما تعملون بصير﴾ في ذلك ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة وغير ذلك مما تقدّم وترهيب من العمل بأضدادها، وفي البصير إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص.
﴿والذين كفرا بعضهم أولياء بعض﴾ أي: في النصر؛ لأن كفار قريش كانوا معادين اليهود فلما بعث رسول الله ﷺ تعاونوا عليه جميعاً وفي الميراث، فيرث بعضهم بعضاً ولا إرث بينكم وبينهم ﴿ألا تفعلوه﴾ أي: ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم لبعض حتى في الميراث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار ﴿تكن﴾ أي: تحصل ﴿فتنة﴾ أي: عظيمة ﴿في الأرض﴾ بضعف الإيمان وقوّة الكفر ﴿وفساد كبير﴾ في الدين، ولما تقدّمت أنواع المؤمنين المهاجر والناصر والقاعد وذكر أحكام موالاتهم أخذ يبين تفاوتهم في الفضل بقوله تعالى:
﴿والذين آمنوا﴾ أي: بالله ورسوله وما أتى به ﴿وهاجروا﴾ في الله تعالى من يعادي نبيه ﷺ سابقين ﴿وجاهدوا في سبيل الله﴾ بما تقدّم من المال والنفس وغيرهما، فبذلوا الجهد في إذلال الكفار ولم يذكر آلة الجهاد؛ لأنها مع تقدّم ذكرها لازمة ﴿والذين أووا﴾ أي: من هاجر إليهم ﴿ونصروا﴾ أي: حزب الله ﴿أولئك هم المؤمنون﴾ أي: الكاملون في الإيمان ﴿حقاً﴾ أي: لأنهم حققوا إيمانهم بتحقيق مقتضاه من الهجرة والجهاد وبذل المال ونصرة الحق ثم وعدهم الموعد الكريم بقوله تعالى: ﴿لهم مغفرة﴾ أي: لزلاتهم وهفواتهم؛ لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عند التقصير وإن اجتهد ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.
ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة ذكر تزكيتهم بالرحمة بقوله تعالى: ﴿ورزق﴾ أي: من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة ﴿كريم﴾ أي: لا تبعة ولا منة فيه ثم الحق بهم في الأمرين من يستلحق بهم ويتسم بسمتهم بقوله تعالى:
﴿والذين آمنوا من بعد﴾ أي: بعد السابقين إلى الإيمان والهجرة ﴿وهاجروا﴾ أي: لاحقين للسابقين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية قال: وهي الهجرة الثانية ﴿وجاهدوا معكم﴾ أي: من تجاهدونه من حزب الشيطان ﴿فأولئك منكم﴾ أي: من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار فلهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها لأنّ الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم بما
نصره لهم بقوله تعالى:
﴿قد كانت آياتي﴾ أي: من القرآن ﴿تتلى عليكم﴾ أي: من أوليائي وهم الهداة النصحاء ﴿فكنتم﴾ كوناً هو كالجبلة ﴿على أعقابكم﴾ عند تلاوتها ﴿تنكصون﴾ أي: تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها، والنكوص الرجوع القهقرى.
﴿مستكبرين﴾ عن الإيمان، واختلف في عود الضمير في ﴿به﴾ فقال ابن عباس: بالبيت الحرام، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره، وذلك أنهم يقولون: نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً، فيأمنون فيه، وسائر الناس في الخوف، وقيل: بالقرآن، فلم يؤمنوا به، وقوله تعالى: ﴿سامراً﴾ نصب على الحال أي: جماعة يتحدثون بالليل حول البيت، وقوله تعالى: ﴿تهجرون﴾ قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي: تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي ﷺ وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم، أي: تعرضون عن النبي ﷺ وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحراً وشعراً، ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردَّ عليهم بأنّ بين أنّ إقدامهم على هذه الأمور لا بد أنّ يكون لأحد أمور أربعة:
أحدها: أنّ لا يتأملوا في دليل نبوّته، وهو المراد من قوله تعالى:
﴿أفلم يدّبروا القول﴾ أي: القرآن الدال على صدق النبي ﷺ وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.
ثانيها: أنّ يعتقدوا أنّ ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى: ﴿أم جاءهم﴾ في هذا القول ﴿ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ الذين بعد إسماعيل وقبله.
ثالثها: أنّ لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة، وهو المراد من قوله تعالى:
﴿أم لم يعرفوا رسولهم﴾ أي: الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه ﷺ وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين ﴿فهم﴾ أي: فتسبب عن جهلهم به أنهم ﴿له﴾ أي: نفسه أو القول الذي أتى به ﴿منكرون﴾ فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل، ثم كذبوه.
رابعها: أنّ يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، وهو المراد من قوله تعالى:
﴿أم يقولون﴾ أي: بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن ﴿به﴾ أي: رسولهم ﴿جنة﴾ أي: جنون فلا يوثق به.
ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم، وإنه أكملهم خلقاً وأشرفهم خلقاً، وأظهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً وأمتنهم رأياً، وأرضاهم قولاً وأصوبهم فعلاً أضرب عنها وقال تعالى: ﴿بل﴾ أي: لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم ﴿جاءهم بالحق﴾ أي: القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام، وقال الجلال المحلي: الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم
ما يدعى حذف الشرط ولا يجوز إلا لدليل واضح كأن يتقدمه الأمر أو ما أشبهه يقال: سرى وأسرى لغتان.
ولما أمر بالإسراء أمر بما يفعل فيه فقال تعالى:
﴿واترك البحر﴾ أي: إذا سريت بهم وتبعك العدو ووصلت بعد إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجيتم ﴿رهواً﴾ بعد خروجكم منه بأجمعكم وفي الرهو وجهان أحدهما: أنه الساكن أي: اتركه ساكناً قال الأعشى:

*يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتكل*
أي: مشياً ساكناً على هينه قاراً على حاله بحيث يبقى المرتفع من مائه مرتفعاً، والمنخفض منخفضاً كالجدار، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها لأن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمر أن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، والثاني: أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملاً فالجاً فقال: سبحان الله رهو بين سنامين أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً ﴿إنهم جند مغرقون﴾ أي: متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور.
ولما أخبر تعالى عن غرقهم أخبر عن متخلفهم بقوله تعالى:
﴿كم تركوا﴾ أي: كثيراً ترك الذين سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا ﴿من جنات﴾ أي: بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يستر الهموم ودل على كرم الأرض بقوله تعالى: ﴿وعيون﴾ ﴿وزروع﴾ أي: ما هو دون الأشجار، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها ثم أخبر عن منازلهم بقوله تعالى: ﴿ومقام كريم﴾ أي: مجلس شريف هو أهل لأن يقوم الإنسان فيه لأنه في النهاية فيما يرضيه.
﴿ونعمة﴾ وهي اسم للتنعم بمعنى الترفيه والعيش اللين الرغد ﴿كانوا فيها﴾ أي: دائماً ﴿فاكهين﴾ أي: فعلهم في عيشهم فعل المتفكه المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه وقوله تعالى:
﴿كذلك﴾ خبر لمبتدأ مضمر أي: الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه فلا يغتر أحد بما ابتليناه من النعم لئلا نصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم وقوله تعالى: ﴿وأورثناها﴾ أي: تلك الأمور العظيمة عطف على تركوا ﴿قوماً﴾ أي: ناساً ذوي قوة في القيام على ما يحاولونه وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقهم بقوله تعالى: ﴿آخرين﴾ ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل وقيل: غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر بل سكنوا الأرض المقدسة.
ولما سكن القوم الآخرون بمصر ورثوا كنوزها وأموالها ونعمها ومقامها الكريم وقوله تعالى:
﴿فما بكت عليهم السماء والأرض﴾ مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم لهوانهم، وإذا لم تبك المساكن فما ظنك بالساكن الذي هو فيها تقول العرب: إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس قال الفرزدق:
*فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمر*
وقالت الخارجية:
حكم الشرع بصحته ولا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته، واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة ﴿وتواصوا﴾ أيضاً ﴿بالصبر﴾ عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبتلي الله به عباده من الأمراض وغيرها.
ويروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: قرأت على النبي ﷺ والعصر، ثم قلت: ما تفسيرها يا رسول الله؟ فقال ﷺ «والعصر قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار أنّ الإنسان لفي خسر أبو جهل إلا الذين آمنوا أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان، وتواصوا بالصبر عليّ». وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفاً عليه. وقال قتادة: بالحق، أي: بالقرآن. وقال السدّي: الحق هنا الله عز وجل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ «من قرأ سورة والعصر غفر الله له، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر». حديث موضوع.
سورة الهمزة مكية
وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الحكم العدل ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده أهل البخل وأولي العدل ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بزيادة الفضل
وقوله تعالى: ﴿ويل﴾ فيه قولان: أحدهما: أنه كلمة عذاب، والثاني: أنه واد في جهنم ﴿لكل همزة لمزة﴾ قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب، فعلى هذا هما بمعنى. وقال ﷺ «شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمةالمفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب». وقال مقاتل: الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللمزة الذي يعيبك في الوجه. وقال أبو العالية والحسن: الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه، وهذا اختيار النحاس. ومنه قوله تعالى: ﴿ومنهم من يلمزك في الصدقات﴾ (التوبة: ٥٨)
. وقال سعيد بن جبير: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة الطعان عليهم. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه. وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منهم. وأصل الهمز الكسر واللمز الطعن، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم حتى صار ذلك عادة، لأنه خلق ثابت في جبلتهم والذي دلّ على الاعتياد صيغة فعلة بضم ففتح، كما يقال: ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به.
واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم. وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أنّ سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحيّ. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبيّ ﷺ من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وقال مجاهد: هي عامّة في حق من هذه صفته.
وقوله تعالى: ﴿الذي جمع مالاً﴾ بدل من كل،


الصفحة التالية
Icon