حجة بل الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحياً، وأنه عليه الصلاة والسلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً، والقول بأنّ قصتها تشابه قصتها وتناسبها فضمت إليها إنما يتم إذا قلنا: إنهم إنما وضعوا هذه السورة من قبل أنفسهم لهذه العلة. وقيل: إن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة سورة واحدة أم سورتان، فقال بعضهم: هما سورة واحدة؛ لأنّ كلتيهما نزل في القتال، ومجموعهما هو السورة السابعة من الطوال وهي سبع، وما بعدها المؤن؛ لأنهما معاً مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال: سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول: هما سورة واحدة. وقال بعض أصحاب الإمام الشافعي رضي الله عنه: لعل الله لما علم من بعض الناس أنهم ينازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر أن لا تكتب ههنا ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة وجب كونها آية من كل سورة، وقيل غير ذلك. والصحيح من هذه الأقوال ما ذهب إليه القاضي من أنّ القرآن مرتب من قبل الله ومن قبل رسوله ﷺ على الوجه الذي نقل، وأنه صلى
الله عليه وسلم حذف بسم الله الرحمن الرحيم من هذه السورة وحياً، وإنما ذكرت هذه الأقوال تشحيذاً للأذهان. وقوله تعالى:
﴿براءة﴾ خبر مبتدأ محذوف أي: هذه براءة. وقوله تعالى: ﴿من الله ورسوله﴾ من: ابتدائية متصلة بمحذوف تقديره: واصلة من الله ورسوله، ويجوز أن يكون: براءة مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر ﴿إلى الذين عاهدتم﴾ أي: أوقعتم العهد بينكم وبينهم ﴿من المشركين﴾ أي: وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع النظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وإنما الله تعالى ورسوله ﷺ فغنيان عن ذلك، أمّا الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول ﷺ فبالذي اختاره للرسالة؛ لأنه ما فعل ذلك إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب.
روي أن النبيّ ﷺ لما خرج إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ فأمر الله تعالى بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى: ﴿وإمّا تخافنّ من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء﴾ (الأنفال، ٥٨)
الآية ونقض العهد بما يذكر في قوله تعالى ﴿فسيحوا﴾ أي: سيحوا آمنين أيها المشركون ﴿في الأرض أربعة أشهر﴾ لا يتعرّض لكم فيها ولا أمان لكم بعدها، وكان ابتداء هذه الأشهر يوم الحج الأكبر وانقضاؤها إلى عشر من ربيع الآخر، وقال الأزهري: هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم؛ لأنها نزلت في شوّال. وقيل: في ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشرين من شهر ربيع الآخر، وكانت حرماً لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرم منها. قال البغوي: والأوّل هو الأصوب وعليه الأكثرون اه. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأوّل؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة
أي: عادوا وتمادوا ﴿في طغيانهم﴾ الذي كانوا عليه قبل هذا ﴿يعمهون﴾ أي: يترددون.
﴿ولقد أخذناهم بالعذاب﴾ وذلك أنّ النبي ﷺ دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي ﷺ فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه: العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضاً: القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي ﷺ السنة فقال:
*ولا شي مما يأكل الناس عندنا
... سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
*وليس لنا إلا إليك فرارنا
... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله ﷺ «واستسقى لرفع هذه المحن» فقال الله تعالى عنهم: ﴿فما استكانوا﴾ أي: خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون ﴿لربهم﴾ أي: المحسن إليهم عقب المحنة ﴿وما يتضرعون﴾ أي: يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
﴿حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا﴾ أي: صاحب ﴿عذاب شديد﴾ قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل: هو الموت، وقيل: هو قيام الساعة ﴿إذا هم فيه﴾ أي: ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص ﴿مبلسون﴾ متحيرون آيسون من كل خير، ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه:
أحدها: ما ذكره بقوله تعالى:
أي: خلق ﴿لكم﴾ يا من يكذب بالآخرة ﴿السمع﴾ بمعنى الإسماع ﴿والأبصار﴾ على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات ﴿والأفئدة﴾ أي: التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، فمن لم يعملها فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها كما قال عز وجل: ﴿فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم، ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله﴾ (الأحقاف، ٢٦)، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أنّ يعطي آدمي شيئاً منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم، فقال تعالى: ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ لمن أولاكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً؛ قال أبو مسلم: ليس المراد أنّ لهم شكراً وإن قل، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان.
ثانيها: ما ذكره في قوله تعالى: ﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿الذي ذرأكم﴾ أي: خلقكم وبثكم ﴿في الأرض﴾ للتناسل ﴿وإليه﴾ وحده ﴿تحشرون﴾ يوم النشور.
ثالثها: ما ذكره بقوله تعالى:
﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿الذي﴾ من شأنه أنه {يحي
والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات التسع ﴿مبين﴾ أي: بين في نفسه موضح لغيره.
﴿إن هؤلاء﴾ إشارة إلى كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار على مثل ما حل بهم ﴿ليقولون﴾ أي: بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار.
﴿أن﴾ أي: ما ﴿هي﴾ وقولهم ﴿إلا موتتنا﴾ على حذف مضاف أي: ما الحياة إلا حياة موتتنا ﴿الأولى﴾ التي كانت قبل نفخ الروح كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الجاثية ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا﴾ (الأنعام: ٢٩)
وقال الجلال المحلي: إن هي ما الموتة التي بعدها الحياة إلا موتتنا الأولى أي: وهم نطف، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿وما نحن بمنشرين﴾ أي: بمبعوثين بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت، يقال: نشره وأنشره أحياه ثم احتجوا على نفي الحشر والنشر بقولهم:
﴿فأتوا﴾ أي: أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت ﴿بآبائنا﴾ أي: لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي: ثابتاً صدقكم في أنا نبعث يوم القيامة أحياء بعد الموت ثم خوفهم الله تعالى بمثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى:
﴿أهم خير﴾ أي: في الدين والدنيا ﴿أم قوم تُبّع﴾ أي: ليسوا خيراً منهم فهو استفهام على سبيل الإنكار، قال أبو عبيدة: ملوك اليمن كل واحد منهم يسمى تبعاً لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم في ملوك الحرب، وقال قتادة: هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي بذلك: لكثرة أتباعه وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه، ولذلك ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، وعن النبي ﷺ «لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم». وعنه ﷺ «ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي». وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً». وذكر عكرمة عن ابن عباس: أنه كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق وحبر الحبر وبنى قصر سمرقند، وملك بقومه الأرض طولها والعرض وكان أقرب المملكين إلى قريش زماناً ومكاناً، وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار، قال الرازي في اللوامع: هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق.
قال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار: لما قتل ابنه غيلة في المدينة الشريفة وما وعظ به اليهود في الكف عن خراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش إنه صدقهم واتبع دينهم وذلك قبل نسخه. وعن الرياشي آمن تبع بالنبي ﷺ قبل أن يبعث بسبعمائة عام، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: ﴿أهم خير أم قوم تبع﴾ مع أنه لا خير في الفريقين؟ أجيب: بأن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى: ﴿أكفاركم خير من أولئكم﴾ (القمر: ٤٣)
بعد ذكر آل فرعون ويجوز في قوله تعالى: ﴿والذين من قبلهم﴾ أي: مشاهير الأمم كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد، ثلاثةُ أوجه؛ أحدها: أن يكون معطوفاً على قوم تبع، ثانيها: أن يكون مبتدأ وخبره ﴿أهلكناهم﴾ أي: بعظمتنا وإن كانوا أصحاب مكنة وقوة، وأما على الأول ﴿فأهلكناهم﴾ إما مستأنف، وإما حال من الضمير المستكن في الصلة، ثالثها: أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره أهلكناهم ولا محل لأهلكناهم حينئذ {إنهم
بفتحهما فقيل: هو اسم جمع لعمود، وقيل: بل هو جمع له. قال الفراء: كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هو جمع عماد. ﴿ممددة﴾ أي: معترضة كأنها موضوعة على الأرض في غاية المكنة فلا يستطيع الموثوق بها على نوع حيلة في أمرها. قال رسول الله ﷺ «إنّ الله يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق، وتسدّ بتلك المسامير، وتمدّ بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غم فيكون كلامهم فيها زفيراً وشهيقاً».
وقال قتادة: عمد تعذبون بها، واختاره الطبريّ. وقال ابن عباس: إنّ العمد الممدّدة أغلال في أعناقهم. وقال أبو صالح قيود في أرجلهم. وقال القشيري: العمد أوتاد الأطباق. وقيل: المعنى في دهور ممدودة لا انقطاع لها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد ﷺ وأصحابه» حديث موضوع.
سورة الفيل مكية
وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي قدّر به في كل شيء عاملة ﴿الرحمن﴾ الذي له النعمة الشاملة ﴿الرحيم﴾ الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة:
وقوله تعالى: ﴿ألم تر﴾ استفهام تعجب، أي: أعجب ﴿كيف فعل ربك﴾ أي: المحسن إليك ﴿بأصحاب الفيل﴾ فهو خطاب للنبيّ ﷺ وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها، وإنما قال تعالى: كيف لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته، وشرف رسوله ﷺ وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، فخرج إليها فدخلها ليلاً فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من أجترأ علييّ فقيل: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع الذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوّة فبعث به إليه فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه بالفيل واثنى عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: كان معه ألف فيل.
وقيل: كان وحده، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذونفر بمن أطاعه من قومه فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذانفر، فقال له: أيها الملك استبقني فإن استبقائي خير لك من قتلي فاستبقاه فأوثقه، وكان أبرهة رجلاً حليماً. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلاً، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب وهاتان


الصفحة التالية
Icon