سُورَةُ تَبَّتْ
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١)
معناه خسرت يدا أبي لهب، وتب: أي خسر.
وجاء في التفسير أن النبي - ﷺ - دعا عمومته وقدم إليهم صحفة فيها طعام فقالوا: أحدنا وحده يأكل الشاة وإنما قدم إلينا هذه الصحفة، فأكلوا منها جميعاً ولم ينقص منها إلا الشيء اليسير، فقالوا: مالنا عندك إن اتبعناك، قال: لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، وإنما تتفاضلون في الدين، فقال أبو لهب: تبًّا لك ألهذا دعوتنا!؟
فأنزل الله عز وجل: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)
* * *
وقوله: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢)
المفسرون قالوا: ما كسب هاهنا ولده.
موضع (ما) رفع، المعنى مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وكسبه.
* * *
(سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣)
أي: وولده سيصلى ناراً ذات لهب.
ويقرأ: (سَيُصْلَى نَارًا).
* * *
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)
(حَمَّالَةُ الْحَطَبِ)
ويقرأ (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) - بالنصب - وامرأته رفع من وجهين:
أحدهما العطف على ما في " سَيُصْلَى "، المعنى سيصلى هو وامرأته ويكون (حَمَّالَةُ الْحَطَبِ) نعتا لها.
ومن نصب فعلى الذم، والمعنى: أعني (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).
ويجوز رفع (وَامْرَأَتُهُ) على الابتداء، و (حَمَّالَةُ) من نعتها، ويكون الخبر:
(فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).
خبر الابتداء.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ﴾: أي: خَسِرَتْ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه: ﴿إِلاَّ فِي تَبَابٍ﴾ [غافر: ٣٧]، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله: «تَبَّتْ» دعاءٌ، و «تَبَّ» إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. كقول الشاعر:
٤٦٦٨ جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه... جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله «وقد تَبَّ» والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما.
وقرأ العامة «لَهَبٍ» بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. فقيل: لغتان بمعنىً، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفْر، والضَّجَر والضَّجْر. وقال الزمخشري: «وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله:» شُمْس ابن مالك «بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر:
٤٦٦٩ وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ... لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في»
شُمْس «أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ» شُمْس «الجمع مِنْ قولِه:» أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ «فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ. وكنى بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولِهم: أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقْبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ» عبد العزى «فعَدَلَ إلى الكُنْية، وقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ: إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ «. انتهى. وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً.
وقُرئ:»
يدا أبو لَهَبٍ «بالواوِ في مكانِ الجرِّ. قال الزمخشري:» كما قيل: عليُّ بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان، أحدُهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب «ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه: ﴿ذاتَ لَهَب﴾ أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.
قوله: ﴿مَآ أغنى﴾: يجوزُ في «ما»
النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.
قوله: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ يجوز في «ما» هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي: لم يَكْسَبْ شيئاً، قاله الشيخُ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله: «وما اكْتَسَبَ».
قوله: ﴿سيصلى﴾ العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ، أي: يصلى هو بنفسِه. وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon