سورة مريم
اعلم أنَّ حروف المُعْجمِ على نوعين : ثُنائي، وثُلاثي، وقد جرت العادةُ - عادةُ العرب - أن ينطقُوا بالثنائيَّات المقطوعة ممالة، فيقولوا : بَا، تَا، ثَا، وكذلك أمثالها، وأن ينطقوا بالثلاثيَّات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة، فيقولون : دال ذال، صاد، ضاد، وكذلك أشكالها.
أما الرَّازي وحدُه من بين حُروف المعجم، فمعتادٌ فيه الأمران، ؛ فإنَّ من أظهر ياءَه في النُّطْق حتَّى يصير ثلاثيَّا، لم يُملُه، ومن لم يظهر ياءه في النطق ؛ حتَّى يشبه الثنائيَّ، أماله.
واعلم أنَّ إشباع الفتحة في جميع المواضع أصلٌ، والإمالة فرعٌ عليه ؛ ولذلك يجوزُ إشباعُ كُلِّ ممالٍ، ولا يجوز كُلُّ مُشْبَعٍ من المفتوحات.
والعامَّة على تسكين أواخر هذه الأحرفُ المقطعة، لذلك كان بعضُ القرَّاء يقفُ على كُلِّ حرفٍ منها وقفة يسيرة كبالغة في تمييز بعضها من بعض.
وقرأ [الحسن] " كافُ " [و " ها " ] وتفخيمهما، وبعضهم يُعبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يعبِّر عن الإمالةِ بالكسر، وإنما ذكرته ؛ لأنَّ عبارتهم في ذلك مُوهمةٌ.
وأزهر دال " صاد " قبل ذالِ " ذكرُ " نافعٌ، وابن كثير، واعاصم ؛ لن الأصل، وأدغمها فيها الباقون.
والمشهورُ إخفاء نون " عَيْن " قبل الصَّاد ؛ لأنها تقاربها، ويشتركان في الفمِ، وبعضها يظهرها ؛ لأنها حروفٌ مقطعةٌ يقصدون تمييز بعضها من بعض.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٣
قوله :﴿ذِكْرُ﴾ : فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره : فيما يتلى عليكم ذكر.
الثاني : أنه خبر محذوف المبتدأ، تقديره : أو هذا ذكر.
الثالث : أنه خبر الحروف المقطَّعة، وهو قول يحيى بن زياد، قال أبو البقاء " وفيه بعدٌ ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها ".
و " ذِكْرُ " مصدرٌ مضافٌ ؛ قيل : إلى مفعوله، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله، و " عَبدَهُ " مفعولٌ به، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً، والتقدير : أن ذكر الله ورحمته عبدهُ، وقيل : بل " ذِكْرُ " مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع، ويكون " عبدهُ " منصوباً بنفس الذِكْر، والتقدير : أن ذكرت الرحمة عبدُه، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً.
و " زكَرِيَّا " بدلٌ، أو عطفُ بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمار " أعْنِي ".
وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريّ عن الحسن - " ذَكَّرَ " فعلاً ماضياً مشدداً، و " رحمة " بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ، قدمت على الأول، وهو " عَبْدُهُ " والفاعلُ : إما ضمير القرآن، أو ضمير الباري تعالى، والتقدير : أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذكَّر الله - عبده رحمتُه، أي : جعل العبد يذكرُ رحمته، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن " رحمةَ ربِّك " هو المفعول الأول، والمعنى : أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد، وقيل : الأصلُ : ذكَّر برحمةِ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره، ولا حاجة إليه.
وقرأ الكلبيُّ " ذكر " بالتخفيف ماضياً " رَحْمَةَ " بالنصب على المفعول به، " عَبْدُهُ " بالرفع فاعلاً بالفعل قبله، " زَكريَّا " بالرفع على البيان، أو البدل، أو على إضمار مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى.
وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدَّاني - " ذَكَّرْ " فعل أمرٍ، " رَحْمَةَ " و " عَبْدهُ "
بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ، يجوز أن يكون المفعول الأول، أو الثاني، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً.
فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة قال ابنُ عباسٍ : هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادةُ : اسمٌ من أسماء القرآن.
وقيل : اسمٌ للسُّورة.
وقيل : هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس في قوله ﴿كاهيعاصا﴾ قال : الكافُ من كريم وكبير، والماء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليهم، وعظيم، والصاد من صادق.
وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة، وعلى الحكيم أخرى.
وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل.
قال ابنُ الخطيب : وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة ؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ، لا بالحقيقةِ، ولا بالمجازِ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ أولي من دلالته على الكريم، والكبير، أو على اسم آخر من أسماء الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أو الملائكة، أو الجنَّة، أو النَّار، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً.
فصل في المراد بقوله تعالى :﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ يحتملُ أن يكون المراد من قوله ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ أنه عنى عبدهُ زكريَّا، ثم في كونه رحمة وجهان : أحدهما : أن يكون " رحْمة " على أمَّته ؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة.
والثاني : أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد - عليه الصلاة والسلام - وعلى أمَّته ؛ لأنَّ