سورة الغاشية
مكية[بالإجماع]، وهي ست وعشرون آية، وثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفا.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٨
قوله تعالى :﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾.
" هل " بمعنى :" قد "، كقوله تعالى :﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ﴾ [الإنسان : ١] قاله قطرب، أي : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، وهي القيامة ؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها.
وقيل : هون استفهامه علىلا بابه، ويسميه أهل البيان : التسويف، والمعنى : إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبيِّ.
وقال سعبيدُ بن جبيرٍ، ومحمد بن كعبٍ : الغاشية : النار تغشى وجوه الكفار، ورواة أبو صالح عن ابن عباس لقوله تعالى :﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾ [إبراهيم : ٥٠].
وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث ؛ لأنها تغشى الخلق.
وقيل : الغاشية اهل النار يغشونها، ويقمحون فيها.
وقيل : معنى " هَل أتاكَ " أي : هذا لم يكن في علمك، ولا في علم قومك، قاله ابن عباس أي : لم يكن أتاه قبل ذلك على التفصيل المذكور.
قوله :﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾.
قد تقدَّم نظيره في سورة " القيامةِ "، وفي " النازعات "، والتنوين
٢٨٩
في " يومئذ " ؛ عوض من جملة، مدلول عليها باسم الفاعل من " الغاشية "، تقديره : يومئذ غشيت الناس ؛ إذ لا تتقدم جملة مصرح بها، و " خاشعة " وما بعدها صفة.
فصل في تفسير الآية قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال تعالى :﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ أي : يوم القيامة، ﴿خَاشِعَةٌ﴾.
قال سفيان : أي : ذليلةٌ بالعذاب، وكل متضائل ساكن خاشع.
يقال : خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، وخشع الصوت : إذا خفي، قال تعالى :﴿وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ﴾ [طه : ١٠٨].
[والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
قال قتادة وابن زيد : خاشعة أي في النار، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام.
وقال ابن عباس : أراد وجوه اليهود والنصارى].
قوله تعالى :﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ هذا في الدنيا ؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، فالمعنى : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة.
قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقُه : قد عمل يعمل عملاً.
وقوله :" ناصبةٌ " أي : تعبةٌ، يقال : نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً : إذا تعب ونَصْباً أيضاً، وأنصبه غيره.
قال ابنُ عباسٍ : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان، والرهبان، وغيرهم، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له.
" وعن علي - رضي الله عنه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله ﷺ فقال :" تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهشمْ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّّة " الحديث.
٢٩٠
وروى سعيد عن قتادة :" عاملةٌ ناصبةٌ " قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله - عز وجل -، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثِّقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ.
قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقرأ ابن كثير في رواية، وابن محيصن وعيسى وحميد :" نَاصِبةٌ " بالنصب على الحال.
وقيل : على الذَّم.
والباقون : بالرفع، على الصفة، أو إضمار مبتدأ فيوقف على " خاشعة ".
ومن حعل المعنى : في الآخرة جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن " وجوه "، فلا يوقف على " خاشعة " [وقيل : عاملة ناصبة أي " عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة].
وروى الحسن، قال : لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - " الشام "، أتاه راهب، شيخ كبير عليه سواد، فلما رآه عمر - رضي الله عنهم - بضم التاء على ما يسم فاعله.
والباقون : بالفتح، على تسمية الفاعل، [والضمير على] كلتا القرائتين للوجوه.
وقرأ أبو رجاء : بضم التاء، وفتح الصَّاد، وتشديد اللام، وقد تقدم معنى ذلك في سورتي :" الانشقاق والنساء ".
٢٩١
فصل في معنى الآية والمعنى : يصيبها صلاؤها وحرُّهان " حامية " أي شديدة الحرِّ، أي قد أوقدت وأُحميت مدةً طويلة، ومنه : حَمِيَ النهار - بالكسر - وحَمِيَ التنور حمياً فيهما، أي : اشتد حره، وحكى الكسائي : اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى.
قال ﷺ :" إنَّ اللهَ أوْقدهَا الفَ سنةٍ حتَّى احمرَّت، ثُمَّ أوْقدَ عليْهَا ألفَ سنةٍ حتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أوقدَ عَليْهَا حتَّى اسْودَّتْ، فهي سَوداءُ مُظْلِمَةٌ ".
قال الماوردي : فإن قيل : فما معنى وصفها بالحَمْي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة ؟.
قيل : قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا.
قيل : المراد : أنها دائمة [الحمي]، وليست كنارِ الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني : أن المراد بالحامية أنَّها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، لقول النبي ﷺ :" إنَّ لكُلِّ مَلكٍ حِمىً، وإنَّ حِمَى اللهِ في أرْضهِ محارمهُ، ومن يرتع حولَ الحِمَى يُوشِك أن يقعَ فِيهِ ".
الثالث : أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، وترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه ؛ كقول الشاعر :[البسيط] ٥١٨١ - تَعْدُو الذِّئَابُ على مَنْ لا كِلاب لَهُ
وتتَّقِي صَوْلةَ المُستأسدِ الحَامِي
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٩