سورة الناس
مكية، وهي ست آيات، وعشرون كلمة، وتسعة وتسعون حرفا.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٥٧٥
قوله تعالى :﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾.
قرئ :" قُلَ عُوذُ " بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام، ونظيره :﴿فَخُذَ رْبَعَةً﴾ [البقرة : ٢٦٠].
وأجمع القراء على تلك الإمالة في " النَّاس " إذا كان في موضع الخفضِ.
ومعنى " رَبّ الناس " مالكهم، ومصلح أمورهم، وإنما ذكر أنه " رَبّ الناس "، وإن كان رباً لجميع الخلق لأمرين : أحدهما : لأن الناس معظمون، فأعلم بذكرهم أنه ربٌّ لهم وإن عظموا.
والثاني : لأنه أمر بالاستعاذة من شرِّهم، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم، وإنما قال :﴿مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ﴾ لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد غيره، فذكر أنه إلههم، ومعبودهم، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به، ويلجأ إليه دون الملوك، والعظماء.
قوله :﴿مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ﴾.
يجوز أن يكونا وصفين لـ " ربّ الناس " وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان.
قال الزمخشري : فإن قلت :" ماك الناس، إله الناس " ؟ ما هما من " رب الناس " ؟ قلت : هما عطف بيان، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق، بين بـ ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ ثم زيد بياناً بـ ﴿إِلَاهِ النَّاسِ﴾ ؛ لأنه قد يقال لغيره :" رب النَّاس "، كقوله :﴿اتَّخَذُوا ااْ
٥٧٦
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ﴾
[التوبة : ٣١]، وقد يقال :" ملك النَّاس "، وأما " إله النَّاس " فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان.
واعترض أبو حيَّان : بأن البيان يكون بالجوامد، ويجاب عنه بأن هذا جارٍ مجرى الجوامد وقد تقدم تقريره في " الرحمن الرحيم " أول الفاتحة.
وقال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل :" بربِّ النَّاس " مضافاً إليهم خاصة ؟ قلت : لأن الاستعاذة وقعت من شر الوسواس في صدور الناس، فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم.
قال الزمخشري :" فإن قلت : فهلاَّ اكتفي بإظهار المضاف إليه الذي هو النَّاس مرة واحدة ؟ لأن عطف البيان للبيان، فكان مظنةٌ للإظهار دون الإضمار ".
وكرر لفظ " النَّاس " ؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار، ولأن التكرار يقتضي مزيد شرف الناس، وأنهم أشرف مخلوقاته.
قال ابن الخطيب : وإنما بدأ بذكر الرب تعالى، وهم اسم لمن قام بتدبيره، وإصلاحه من أوائل نعمه إلى أن رباه، وأعطاه العقل، فحينئذ عرف بالدليل أنه مملوك وأنه ملك، فثنى بذكر الملك، ثم لما علم أن العبادة لازمة له، وعرف أنه معبود مستحق للعبادة وعرفه أنه إله فلهذا ختم به.
قال ابن الخطيب : ولم يقرأ في المشهورة هنا " مالك " بالألف، كما قرئ به في الفاتحة، لأن معنى المالك هو الربُّ، فيلزم التكرار.
وقرئ به في الفاتحة، لاختلاف المضافين، فلا تكرار.
قوله :﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾.
قال الزمخشري :" اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر : فوِسْواس - بالكسر " كزِلْزَال "، والمراد به الشيطان، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه، لأنها صنعته، وشغله الذي هو عاكف عليه، وأريد ذو الوسواس ".
انتهى، وقد مر الكلام معه أن المكسور مصدر، والمفتوح اسم في " الزلزلة " ؛ فليراجع.
والوَسْوَسَةُ : حديث النفس، يقال : وسوست إليه نفسه وَسْوَسة ووِسْوَسة - بكسر الواو - قاله القرطبي.
ويقال لهمس الصائد، والكلاب، وأصوات الحليّ : وسواس.
٥٧٧
قال ذو الرمة :[البسيط] ٥٣٧٢ - فَبَاتَ يُشئِزُهُ ثَأَدٌ ويُسهِرهُ
تَذؤُّبُ الرِّيحِ والوَسْوَاسُ والهِضَبُ
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٥٧٦
وقال الأعشى :[البسيط] ٥٣٧٣ - تِسْمَعُ للحَلْي وسْوَاساً إذا انصَرفَتْ
كمَا اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
قوله :" الخنَّاس " أي : الرجَّاع ؛ لأنه إذا ذكر الله - تعالى - خنس، وهو مثال مبالغة من الخنوس.
يقال : خنس أي تأخر، يقال : خنسة فخنس، أي أخرته فتأخر، وأخنسته أيضاً.
وتقدم الكلام على هذه المادة في سورة :﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير : ١].
﴿الَّذِى يُوَسْوِس﴾ : يجوز جره نعتاً وبدلاً [وبياناً لجريانه مجرى] الجوامد، ونصبه ورفعه على القطع.
قال القرطبي :" ووصف بالخناس ؛ لأنه كثير الاختفاء، ومنه قوله تعالى :﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ﴾ [التكوير : ١٥] يعني النجوم لاختفائها بعد ظهروها ".
فصل في الكلام على الشيطان قال مقاتل : إن الشيطان في سورة خنزير، يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه، سلَّطه الله على ذلك، فذلك قوله تعالى :﴿الَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾، وقال ﷺ :" إنَّ الشَّيطَانَ يَجْرِي من ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ " رواه البخاري ومسلم.
قال القرطبي :" ووسوسته : هو الدعاء إلى طاعته، حتى يصل به إلى القلب، من غير صوت ".
قوله :﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾.
فيه أوجه : أحدها : أنه بدل من " شرّ " بإعادة العامل، أي : من شر الجنة.
الثاني : أنه بدل من ذي الوسواس ؛ لأن الموسوس من الجن والإنس.
الثالث : أنه حال من الضمير في " يُوسْوِسُ " حال كونه من هذين الجنسين.
الرابع : أنه بدل من " النَّاس " وجعل " مِنْ " تبييناً، وأطلق على الجن اسم النَّاس ؛
٥٧٨


الصفحة التالية
Icon