سورة الأنعام
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٣
قلت :﴿ثم الذين كفروا﴾ : عطف على جملة الحمد ؛ على معنى : أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه، نعمةً على العباد، ثم الذين كفروا بربهم الذي ربَّاهم بهذه النعم، يَعدِلون به سواه من الأصنام، يقال : عدَلت فلانًا بفلان ؛ جعلته نظيره، أو عطف على " خلَق وجعل " : على معنى أنه خلق وقدّر ما لا يقدر عليه غيره، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء. ومعنى ﴿ثم﴾ : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان. والباء في " بربهم " متعلقة بكفروا، على الأول، وبيعدلون على الثاني، قاله البيضاوي.
٢٣٤
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿الحمد لله﴾ أي : جميع المحامد إنما يستحقها الله، إذ ما بكم من نعمة فمن الله. ﴿الذي خلق السماوات﴾ التي تُظِلُّكم، مشتملة على الأنوار التي تضيء عليكم، ومحلاً لنزول الرحمات والأمطار عليكم، ﴿و﴾ خلق ﴿الأرض﴾ التي تُقلُّكم، وفيها نبات معاشكم في العادة، وفيها قراركم في حياتكم وبعد مماتكم، مشتملة على بحار وأنهار، وفواكه وثمار، وبهجة أزهار ونِوار، ﴿وجعل الظلمات﴾ التي تستركم، راحة لأبدانكم وقلوبكم، كظلمات الليل الذي هو محل السكون. ﴿و﴾ جعل ﴿النور﴾ الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم. ﴿ثم الذين كفروا﴾ بعد هذا كله، ﴿يعدلون﴾ عنه إلى غيره، أو يعدلون به سواه، فيُسوَونه في العبادة معه.
قال البيضاوي : وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن ؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات، متفاوتة الآثار والحركات، وقدَّمها ؛ لشرفها وعلو مكانها. ثم قال أيضًا : وجمع الظلمات ؛ لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأن المراد بالظلمة : الضلال، وبالنور : الهُدى. والهدى واحد والضلال متعدد. وتقديمها لتقدم الإعدام على المَلَكَهِ. ومن زعم أن الظلمة عرَضٌ يُضاد النور احتج بهذه الآية، ولم يعلم أن عدم الملكَة كالعمي ليس صِرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل. هـ.
الإشارة : أثنى الحقّ ـ جلّ جلاله ـ على نفسه بإنشاء هذه العوالم، التي هي محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه. فأنشأ سموات الأرواح، التي هي مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته، ومحل لظهور عظمة ربوبيته، وأنشأ أرض النفوس، التي هي مظهر لتصرف أقداره، ومحل لظهور آداب عبوديته، وتجلى بين الضدين ؛ بين الظلمات والنور، ليقع الخفاء في الظهور، كما قال بعض الشعراء :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٤
................ لقد
تكامَلَت الأضدادُ في كاملِ البهَا