سورة العنكبوت
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٥
قلت : الحسبان : قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما. والعلم : هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول : حَسِبْتُ زيداً، وظننت الفرس، بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله :﴿وهم لا يفتنون﴾ أي : أحسبو تركهم غير مفتونين لأن يقولوا : آمنا.
يقول الحق جل جلاله :﴿الم﴾ : الألف : لوحدة أسرار الجبروت، واللام : لفيضان أنوار الملكوت، والميم : لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ؛ ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله :﴿أحَسِبَ الناسُ﴾ أي : أظن الناس ﴿أن يُتركوا﴾ غير - مفتونين ومختَبَرِين، ﴿أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون﴾ ؛ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ؛ ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف ؛ من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق ؛ ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان على خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب، وما ينال
٢٩٦
العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله ﷺ، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده ؛ اختباراً لهم.