سورة نوح
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٢
يقول الحق جلّ جلاله :﴿إِنَّا أرسلنا نوحاً﴾ وهو أول أُلي العزم. قيل : معناه بالسريانية : الساكن، وقيل : سمي له لكثرة نوحه شوقاً إلى ربه، ﴿أنْ أَنْذِر قَوْمَكَ﴾ أي : بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل، ومحله عند الخليل : الجر : وعند غيره : نصب، أو :" أنْ " مفسرة ؛ لأنَّ الإرسال فيه معنى القول، فلا يكون للجملة محل، وقُرىء :" أنذر " بغير " أنْ "، أي : خوّف قومك ﴿مِن قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم﴾ ؛ عذاب الآخرة، أو الطوفان، لئلا يبقى لهم عذر أصلاً.
﴿قال يا قوم﴾، أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة ﴿إِني لكم نذير مبينٌ﴾ ؛ مُنذِر موضّح لحقيقة الأمر، أُبين لكم رسالة ربي بِلُغةٍ تعرفونها، ﴿أنِ اعبدُوا اللهَ﴾ أي : وحّدوه، و " أنْ " هذه نحو " أن أنذر " على الوجهين، ﴿واتقوه﴾ ؛ واحذروا عصيانه، ﴿وأطيعونِ﴾ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما أضافه إلى نفسه ؛ لأنَّ الطاعة تكون لغير الله بخلاف العبادة، وطاعته هي طاعة الله.
﴿يغفرْ لكم من ذنوبكم﴾ أي : بعض ذنوبكم، وهو ما سلف في الجاهلية، فإنَّ الإسلام يَجُبُّه، إلاّ حقوق العباد ؛ فإنه يؤديها، وقيل :" مَن " لبيان الجنس، كقوله :﴿فَاجْتَنِبُواْ الرِجْسَ مَنَ الأَوْثَآنِ﴾ [الحج : ٣٠]. قال ابن عطية : وكونها للتبعيض أبين ؛ لكونه لو قال : يغفر لكم ذنوبكم ؛ لعَمّ هذا اللفظ ما تقدّم به من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يَجُب ما قبله. هـ. قال القشيري : ولأنه لو أخبرهم بغفران ما تقدّم وما تأخّر لكان إغراءً لهم، وذلك لا يجوز. هـ. ﴿ويُؤخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى﴾ وهو وقت
١٤٣
موتكم، فتموتون عند انقضاء آجالكم الذي تعرفونه من غير غرق ولا هلاك استئصال، فإن لم تؤمنوا عاجَلَكم بالعذاب، فيكون هو آجالكم، ولمّا كان ربما يتوهم أنَّ الأجل قد يتقدّم، رَفَعَه بقوله :﴿إنَّ أَجَلَ اللهِ﴾ وهو الموت عند تمام الأجل ﴿إِذا جاء لا يُؤخَّرُ لو كنتم تعلمون﴾ أي : لو كنتم تعلمون لسارعتم إلى الإيمان قبل مجيئه، فلا حُجة فيه للمعتزلة. وانظر ابن جزي.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ١٤٣