﴿١٠٦ - ١١٢﴾ ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾.
يثني الله تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء، وأنه لا يستغنى عنه فقال: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ أي: يتبلغون به في الوصول إلى ربهم، وإلى دار كرامته، فوصلهم إلى أجل المطالب، وأفضل الرغائب. وليس للعابدين، الذين هم أشرف الخلق، وراءه غاية، لأنه الكفيل بمعرفة ربهم، بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وبالإخبار بالغيوب الصادقة، وبالدعوة لحقائق الإيمان، وشواهد الإيقان، المبين للمأمورات كلها، والمنهيات جميعا، المعرف بعيوب النفس والعمل، والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله، والتحذير من طرق الشيطان، وبيان مداخله على الإنسان، فمن لم يغنه القرآن، فلا أغناه الله، ومن لا يكفيه، فلا كفاه الله.
ثم أثنى على رسوله، الذي جاء بالقرآن فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ فهو رحمته المهداة لعباده، فالمؤمنون به، قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وقاموا بها، وغيرهم كفرها، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأبوا رحمة الله ونعمته.
﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولهذا قال: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي: منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته، فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما منَّ عليهم بهذه النعمة التي فاقت المنن.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الانقياد لعبودية ربهم، فحذرهم حلول المثلات، ونزول العقوبة.
﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ﴾ أي: أعلمتكم بالعقوبة ﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ أي علمي وعلمكم بذلك مستو، فلا تقولوا - إذا أنزل بكم العذاب: ﴿مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ﴾ بل الآن، استوى علمي وعلمكم، لما أنذرتكم، وحذرتكم، وأعلمتكم بمآل الكفر، ولم أكتم عنكم شيئا.
﴿وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ أي: من العذاب لأن علمه عند الله، وهو بيده، ليس لي من الأمر شيء.
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي: لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه شر لكم، وأن تتمتعوا في الدنيا إلى حين، ثم يكون أعظم لعقوبتكم.
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ أي: بيننا وبين القوم الكافرين، فاستجاب الله هذا الدعاء، وحكم بينهم في الدنيا قبل الآخرة، بما عاقب الله به الكافرين من وقعة " بدر " وغيرها.
﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ أي: نسأل ربنا الرحمن، ونستعين به على ما تصفون، من قولكم سنظهر عليكم، وسيضمحل دينكم، فنحن في هذا، لا نعجب بأنفسنا، ولا نتكل على حولنا وقوتنا، وإنما نستعين بالرحمن، الذي ناصية كل مخلوق بيده، ونرجوه أن يتم ما استعناه به من رحمته، وقد فعل، ولله الحمد.
تفسير سورة الحج قيل:
مكية، وقيل: مدنية
﴿١ - ٢﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾.
يخاطب الله الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، فحقيق بهم أن يتقوه، بترك الشرك والفسوق والعصيان، ويمتثلوا أوامره، مهما استطاعوا.
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، ويحذرهم من تركها، وهو الإخبار بأهوال القيامة، فقال:
﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ لا يقدر قدره، ولا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، -[٥٣٣]- وتصدعت الجبال، واندكت، وكانت كثيبا مهيلا ثم كانت هباء منبثا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج.
فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر، وتنتثر النجوم، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب، وتجل منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، وتذوب له الصم الصلاب، ولهذا قال: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها، خصوصا في هذه الحال، التي لا يعيش إلا بها.
﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ من شدة الفزع والهول، ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ أي: تحسبهم -أيها الرائي لهم- سكارى من الخمر، وليسوا سكارى.
﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ فلذلك أذهب عقولهم، وفرغ قلوبهم، وملأها من الفزع، وبلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وفي ذلك اليوم، لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
ويومئذ ﴿يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
وهناك ﴿يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾ وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه وتنصب الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذر من الخير والشر وتنشر صحائف الأعمال وما فيها من جميع الأعمال والأقوال والنيات من صغير وكبير وينصب الصراط على متن جهنم وتزلف الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين ﴿إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا﴾ ويقال لهم ﴿لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ وإذا نادوا ربهم ليخرجهم منها قال ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب الأليم وأيسوا من كل خير ووجدوا أعمالهم كلها لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا
هذا والمتقون في روضات الجنات يحبرون وفي أنواع اللذات يتفكهون وفيما اشتهت أنفسهم خالدون فحقيق بالعاقل الذي يعرف أن كل هذا أمامه أن يعد له عدته وأن لا يلهيه الأمل فيترك العمل وأن تكون تقوى الله شعاره وخوفه دثاره ومحبة الله وذكره روح أعماله


الصفحة التالية
Icon