أول أمره ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الجزاء ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته.
و ﴿ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق : ٥] استفهام أي من أي شيء خلق جوابه ﴿ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [الطارق : ٦] والدفق : صب فيه دفع.
والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز.
وعن بعض أهل اللغة : دفقت الماء دفقاً : صببته ودفق الماء بنفسه أي انصب.
ولم يقل من ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتدىء في خلقه ﴿ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآ ـاِبِ ﴾ [الطارق : ٧] من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة.
وقيل : العظم والعصب من الرجل واللحم والدم من المرأة ﴿ إِنَّهُ ﴾ إن الخالق لدلالة خلق عليه ومعناه إن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة ﴿ عَلَى رَجْعِهِ ﴾ [الطارق : ٨] على إعادته خصوصاً ﴿ لَقَادِرٌ ﴾ لبيّن القدرة لا يعجز عنه كقوله : إنني لفقير أي لبيّن الفقر.
ونصب ﴿ يَوْمَ تُبْلَى ﴾ [الطارق : ٩] أي تكشف برجعه أو بمضمر دل عليه قوله ﴿ رَجْعِهِ ﴾ أي يبعثه يوم تبلى ﴿ السَّرَآ ـاِرُ ﴾ ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال ﴿ فَمَا لَهُ ﴾ [الشورى : ٤٦] فما للإنسان ﴿ مِن قُوَّةٍ ﴾ [الطارق : ١٠] في نفسه على دفع ما حل به ﴿ وَلا نَاصِرٍ ﴾ [الطارق : ١٠] يعينه ويدفع عنه.
﴿ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ﴾ [الطارق : ١١] أي المطر وسمي به لعوده كل حين ﴿ وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾ [الطارق : ١٢] هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات ﴿ إِنَّهُ ﴾ إن القرآن ﴿ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾ [الطارق : ١٣] فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان ﴿ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ [الطارق : ١٤] باللعب والباطل يعني أنه جد كله ومن حقه، وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ يعني مشركي مكة ﴿ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴾ [الطارق : ١٥] يعملون المكايد في إبطال أمر الله وأطفاء نور الحق ﴿ وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق : ١٦] وأجازيهم جزاء كيدهم باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون فسمي جزاء الكيد كيداً كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة وإن لم يكن اعتداء وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله :﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة : ٦٧] (التوبة : ٧٦) ـ ﴿ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ ﴾ [النساء : ١٤٢] (النساء : ٢٤١) ـ
٥٠٩
﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [البقرة : ١٥] (البقرة : ٥١) ﴿ فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ ﴾ [الطارق : ١٧] أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به ﴿ أَمْهِلْهُمْ ﴾ أنظرهم فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير ﴿ رُوَيْدًا ﴾ مهلاً يسيراً ولا يتكلم بها إلا مصغّرة وهي من رادت الريح ترود روداً تحركت حركة ضعيفة.
٥١٠
سورة الأعلى
مكية وهي تسع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى ﴾ [الأعلى : ١] نزه ذاته عما لا يليق به، والاسم صلة وذلك بأن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلو في المكان.
وقيل : قل سبحان ربي الأعلى.
وفي الحديث لما نزلت قال عليه السلام : اجعلوها في سجودكم ﴿ الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى ﴾ [الأعلى : ٢] أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ولكن على إحكام واتساق، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم، أو سوّاه على ما فيه منفعة ومصلحة ﴿ وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى : ٣] أي قدر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به، أو فهدى وأضل ولكن حذف وأضل اكتفاء كقوله :﴿ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ﴾ [النحل : ٩٣] (فاطر : ٨).
﴿ قُدِرَ ﴾ عليّ ﴿ وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾ [الأعلى : ٤] أنبت ما ترعاه الدواب ﴿ فَجَعَلَهُ غُثَآءً ﴾ [الأعلى : ٥] يابساً هشيماً ﴿ أَحْوَى ﴾ أسود ف ﴿ أَحْوَى ﴾ صفة الغثاء ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ﴾ [الأعلى : ٦] سنعلمك القرآن حتى تنساه ﴿ إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ [الأنعام : ١٢٨]
٥١١


الصفحة التالية
Icon