تفسير سورة النمل
وهي مكية
﴿١ - ٦﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾.
ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ أي: هي أعلى الآيات وأقوى البينات وأوضح الدلالات وأبينها على أجل المطالب وأفضل المقاصد، وخير الأعمال وأزكى الأخلاق، آيات تدل على الأخبار الصادقة والأوامر الحسنة والنهي عن كل عمل وخيم وخلق ذميم، آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة مبلغ الشمس للأبصار، آيات دلت على الإيمان ودعت للوصول إلى الإيقان، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة، على طبق ما كان ويكون. آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة، آيات عرفتنا برسله وأوليائه ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا، ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ولم يهتد بها جميع المعاندين صونا لها عن من لا خير فيه ولا صلاح ولا زكاء في قلبه، وإنما اهتدى بها من خصهم الله بالإيمان واستنارت بذلك قلوبهم وصفت سرائرهم.
فلهذا قال: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم وتبين لهم ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه، وتبشرهم بثواب الله المرتب على الهداية لهذا الطريق.
ربما قيل: لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى -[٦٠١]- أنه مؤمن ذلك؟ أم لا بد لذلك من دليل؟ وهو الحق فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة، من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها، وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب الله وتدبر ما يقول المصلي ويفعله.
﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ المفروضة لمستحقيها. ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي: قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل. ويقينهم بالآخرة يقتضي كمال سعيهم لها، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل خير.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ ويكذبون بها ويكذبون من جاء بإثباتها، ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ حائرين مترددين مؤثرين سخط الله على رضاه، قد انقلبت عليهم الحقائق فرأوا الباطل حقا والحق باطلا.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾ أي: أشده وأسوأه وأعظمه، ﴿وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ﴾ حصر الخسار فيهم لكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل.
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ أي: وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك وتتلقفه وتتلقنه ينزل من عند ﴿حَكِيمٍ﴾ يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها. ﴿عَلِيمٍ﴾ بأسرار الأمور (١) وبواطنها، كظواهرها. وإذا كان من عند ﴿حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ (٢) علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد، من الذي [هو] أعلم بمصالحهم منهم؟
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ إلى آخر قصته، يعني: اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى بن عمران، ابتداء الوحي إليه واصطفائه برسالته وتكليم الله إياه، وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين وسار بأهله من مدين متوجها إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق ضل وكان في ليلة مظلمة باردة فقال لهم: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ أي: أبصرت نارا من بعيد ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ عن الطريق، ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ أي: تستدفئون، وهذا دليل على أنه تائه ومشتد برده هو وأهله.
﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ أي: ناداه الله تعالى وأخبره أن هذا محل مقدس مبارك، ومن بركته أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وندائه وإرساله.
﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ عن أن يظن به نقص أو سوء بل هو الكامل في وصفه وفعله.
﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أي: أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة وحده لا شريك له كما في الآية الأخرى ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ ﴿الْعَزِيزُ﴾ الذي قهر جميع الأشياء وأذعنت له كل المخلوقات، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في أمره وخلقه. ومن حكمته أن أرسل عبده موسى بن عمران الذي علم الله منه أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه. ومن عزته أن تعتمد عليه ولا تستوحش من انفرادك وكثرة أعدائك وجبروتهم، فإن نواصيهم بيد الله وحركاتهم وسكونهم بتدبيره.
﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ فألقاها ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ وهو ذكر الحيات سريع الحركة، ﴿وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ ذعرا من الحية التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية، فقال الله له: ﴿يَا مُوسَى لا تَخَفْ﴾ وقال في الآية الأخرى: ﴿أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾ ﴿إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره وتصريفه وأمره، فالذين اختصهم الله برسالته واصطفاهم لوحيه لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله خصوصا عند زيادة القرب منه والحظوة بتكليمه.
﴿إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾ أي: فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم وما تقدم له من الجرم، وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف؟ ومع هذا من ظلم نفسه بمعاصي الله، ثم تاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن الله غفور رحيم، فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ لا برص ولا نقص، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه. ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ﴾ أي: هاتان الآيتان انقلاب العصا حية تسعى وإخراج اليد من -[٦٠٢]- الجيب فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات تذهب بها وتدعو فرعون وقومه، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ فسقوا بشركهم وعتوهم وعلوهم على عباد الله واستكبارهم في الأرض بغير الحق.
فذهب موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ودعاهم إلى الله تعالى وأراهم الآيات.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ مضيئة تدل على الحق ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس. ﴿قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر بل قالوا: ﴿مُبِينٌ﴾ ظاهر لكل أحد. وهذا من أعجب العجائب الآيات المبصرات والأنوار الساطعات، تجعل من بين الخزعبلات وأظهر السحر! هل هذا إلا من أعظم المكابرة وأوقح السفسطة.

(١) في ب: الأحوال.
(٢) سبق قلم الشيخ -رحمه الله- فكتب: (حكيم خبير) فصححتها، وأبقيت التفسير كما هو.


الصفحة التالية
Icon