تفسير سورة لقمان وهي مكية
﴿١ - ٥﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
يشير تعالى إشارة دالة على التعظيم إلى ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ أي: آياته محكمة، صدرت من حكيم خبير.
من إحكامها، أنها جاءت بأجل الألفاظ وأفصحها، وأبينها، الدالة على أجل المعاني وأحسنها.
ومن إحكامها، أنها محفوظة من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، والتحريف.
ومن إحكامها: أن جميع ما فيها من الأخبار (١) السابقة واللاحقة، والأمور الغيبية كلها، مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية، ولم يخبر بخلافها، نبي من الأنبياء، [ولم يأت ولن يأتي علم محسوس ولا معقول صحيح، يناقض ما دلت عليه] (٢).
ومن إحكامها: أنها ما أمرت بشيء، إلا وهو خالص المصلحة، أو راجحها، ولا نهت عن شيء، إلا وهو خالص المفسدة أو راجحها، وكثيرا ما يجمع بين الأمر بالشيء، مع ذكر [حكمته] (٣) فائدته، والنهي عن الشيء، مع ذكر مضرته.
ومن إحكامها: أنها جمعت بين الترغيب والترهيب، والوعظ البليغ، الذي تعتدل به النفوس الخيرة، وتحتكم، فتعمل بالحزم.
ومن إحكامها: أنك تجد آياته المتكررة، كالقصص، والأحكام ونحوها، قد اتفقت كلها وتواطأت، فليس فيها تناقض، ولا اختلاف. فكلما ازداد بها البصير تدبرا، وأعمل فيها العقل تفكرا، انبهر عقله، وذهل لبه من التوافق والتواطؤ، وجزم جزما لا يمترى فيه، أنه تنزيل من حكيم حميد.
ولكن - مع أنه حكيم - يدعو إلى كل خلق كريم، وينهى عن كل خلق لئيم، أكثر الناس محرومون الاهتداء به، معرضون عن الإيمان والعمل به، إلا من وفقه الله تعالى وعصمه، وهم المحسنون في عبادة ربهم والمحسنون إلى الخلق.
فإنه ﴿هُدًى﴾ لهم، يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويحذرهم من طرق الجحيم، ﴿وَرَحْمَة﴾ لهم، تحصل لهم به السعادة في الدنيا والآخرة، والخير الكثير، والثواب الجزيل، والفرح والسرور، ويندفع عنهم الضلال والشقاء.
ثم وصف المحسنين بالعلم التام، وهو اليقين الموجب للعمل والخوف من عقاب الله، فيتركون معاصيه، ووصفهم بالعمل، وخص من العمل، عملين فاضلين: الصلاة المشتملة على الإخلاص، ومناجاة الله تعالى، والتعبد العام للقلب واللسان، والجوارح المعينة، على سائر الأعمال، والزكاة التي تزكي صاحبها من الصفات الرذيلة، وتنفع أخاه المسلم، وتسد حاجته، ويبين بها أن العبد يؤثر محبة الله على محبته للمال، فيخرجه محبوبه من المال، لما هو أحب إليه، وهو طلب مرضاة الله.
فـ ﴿أُولَئِكَ﴾ هم المحسنون الجامعون بين العلم التام، والعمل ﴿عَلَى هُدًى﴾ أي: عظيم كما يفيده التنكير، وذلك الهدى حاصل لهم، وواصل إليهم ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الذي لم يزل يربيهم بالنعم; ويدفع عنهم النقم.
وهذا الهدى الذي أوصله إليهم، من تربيته الخاصة بأوليائه، وهو أفضل أنواع التربية. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الذين أدركوا رضا ربهم، وثوابه الدنيوي والأخروي، وسلموا من سخطه وعقابه، وذلك لسلوكهم طريق الفلاح، الذي لا طريق له غيرها.

(١) في أ: الأحكام والتصويب من: ب.
(٢) زيادة من ب.
(٣) زيادة من ب.

ولما ذكر تعالى المهتدين بالقرآن، المقبلين عليه، ذكر من أعرض عنه، ولم يرفع به رأسا، وأنه عوقب على ذلك، بأن تعوض عنه كل باطل من القول، فترك أعلى الأقوال، وأحسن الحديث، واستبدل به أسفل قول وأقبحه، فلذلك قال:
-[٦٤٧]-
﴿٦ - ٩﴾ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
أي: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ﴾ هو محروم مخذول ﴿يَشْتَرِي﴾ أي: يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء. ﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ أي: الأحاديث الملهية للقلوب، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب. فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو، وباطل، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر، والفسوق، والعصيان، ومن أقوال الرادين على الحق، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، ومن غيبة، ونميمة، وكذب، وشتم، وسب، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجريات الملهية، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا.
فهذا الصنف من الناس، يشتري لهو الحديث، عن هدي الحديث ﴿لِيُضِلَّ﴾ الناس ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي: بعدما ضل بفعله، أضل غيره، لأن الإضلال، ناشئ عن الضلال.
وإضلاله في هذا الحديث; صده عن الحديث النافع، والعمل النافع، والحق المبين، والصراط المستقيم.
ولا يتم له هذا، حتى يقدح في الهدى والحق، ويتخذ آيات الله هزوا ويسخر بها، وبمن جاء بها، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه، والقدح في الحق، والاستهزاء به وبأهله، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال، ولا يعرف حقيقته.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ بما ضلوا وأضلوا، واستهزءوا [بآيات الله] (١) وكذبوا الحق الواضح.
ولهذا قال ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا﴾ ليؤمن بها وينقاد لها، ﴿وَلَّى مُسْتَكْبِرًا﴾ أي: أدبر إدبار مستكبر عنها، رادٍّ لها، ولم تدخل قلبه ولا أثرت فيه، بل أدبر عنها ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾ بل ﴿كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا﴾ أي: صمما لا تصل إليه الأصوات; فهذا لا حيلة في هدايته.
﴿فَبَشِّرْهُ﴾ بشارة تؤثر في قلبه الحزن والغم; وفي بشرته السوء والظلمة والغبرة. ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ مؤلم لقلبه; ولبدنه; لا يقادر قدره; ولا يدرى بعظيم أمره، وهذه بشارة أهل الشر، فلا نِعْمَتِ البشارة.
وأما بشارة أهل الخير فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ جمعوا بين عبادة الباطن بالإيمان، والظاهر بالإسلام، والعمل الصالح.
﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ بشارة لهم بما قدموه، وقرى لهم بما أسلفوه. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: في جنات النعيم، نعيم القلب والروح، والبدن.
﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ لا يمكن أن يخلف، ولا يغير، ولا يتبدل. ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ كامل العزة، كامل الحكمة، من عزته وحكمته، وفق من وفق، وخذل من خذل، بحسب ما اقتضاه علمه فيهم وحكمته.
(١) زيادة من ب.


الصفحة التالية
Icon