سورة فصلت
مكية
﴿١ - ٨﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.
يخبر تعالى عباده أن هذا الكتاب الجليل والقرآن الجميل ﴿تَنزيلُ﴾ صادر ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الذي وسعت رحمته كل شيء، الذي من أعظم رحمته وأجلها، إنزال هذا الكتاب، الذي حصل به، من العلم والهدى، والنور، والشفاء، والرحمة، والخير الكثير، ما هو من أجل نعمه على العباد، وهو الطريق للسعادة في الدارين.
ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان فقال: ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ أي: فصل كل شيء من أنواعه على حدته، وهذا يستلزم البيان التام، والتفريق بين كل شيء، وتمييز الحقائق. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ أي: باللغة الفصحى أكمل اللغات، فصلت آياته وجعل عربيًا. ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي: لأجل أن يتبين لهم معناه، كما تبين لفظه، ويتضح لهم الهدى من الضلال، والْغَيِّ من الرشاد.
وأما الجاهلون، الذين لا يزيدهم الهدى إلا ضلالا ولا البيان إلا عَمًى فهؤلاء لم يُسَقِ الكلام لأجلهم، ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾
﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ أي: بشيرًا بالثواب العاجل والآجل، ونذيرًا بالعقاب العاجل والآجل، وذكر تفصيلهما، وذكر الأسباب والأوصاف التي تحصل بها البشارة والنذارة، وهذه الأوصاف للكتاب، مما يوجب أن يُتَلقَّى بالقبول، والإذعان، والإيمان، والعمل به، ولكن أعرض أكثر الخلق عنه إعراض المستكبرين، ﴿فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ -[٧٤٥]- له سماع قبول وإجابة، وإن كانوا قد سمعوه سماعًا، تقوم عليهم به الحجة الشرعية.
﴿وَقَالُوا﴾ أي: هؤلاء المعرضون عنه، مبينين عدم انتفاعهم به، بسد الأبواب الموصلة إليه: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ﴾ أي: أغطية مغشاة ﴿مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ﴾ أي: صمم فلا نسمع لك ﴿وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ فلا نراك.
القصد من ذلك، أنهم أظهروا الإعراض عنه، من كل وجه، وأظهروا بغضه، والرضا بما هم عليه، ولهذا قالوا: ﴿فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ أي: كما رضيت بالعمل بدينك، فإننا راضون كل الرضا، بالعمل في ديننا، وهذا من أعظم الخذلان، حيث رضوا بالضلال عن الهدى، واستبدلوا الكفر بالإيمان، وباعوا الآخرة بالدنيا.
﴿قُلْ﴾ لهم يا أيها النبي: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ أي: هذه صفتي ووظيفتي، أني بشر مثلكم، ليس بيدي من الأمر شيء، ولا عندي ما تستعجلون به، وإنما فضلني الله عليكم، وميَّزني، وخصَّني، بالوحي الذي أوحاه إليَّ وأمرني باتباعه، ودعوتكم إليه.
﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ﴾ أي. اسلكوا الصراط الموصل إلى الله تعالى، بتصديق الخبر الذي أخبر به، واتباع الأمر، واجتناب النهي، هذه حقيقة الاستقامة، ثم الدوام على ذلك، وفي قوله: ﴿إِلَيْهِ﴾ تنبيه على الإخلاص، وأن العامل ينبغي له أن يجعل مقصوده وغايته، التي يعمل لأجلها، الوصول إلى الله، وإلى دار كرامته، فبذلك يكون عمله خالصًا صالحًا نافعًا، وبفواته، يكون عمله باطلا.
ولما كان العبد، -ولو حرص على الاستقامة- لا بد أن يحصل منه خلل بتقصير بمأمور، أو ارتكاب منهي، أمره بدواء ذلك بالاستغفار المتضمن للتوبة فقال: ﴿وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾ ثم توَّعد من ترك الاستقامة فقال: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الذين لا يؤتون الزكاة﴾ أي: الذين عبدوا من دونه من لا يملك نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا ودنسوا أنفسهم، فلم يزكوها بتوحيد ربهم والإخلاص له، ولم يصلوا ولا زكوا، فلا إخلاص للخالق بالتوحيد والصلاة، ولا نفع للخلق بالزكاة وغيرها. ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هم كَافِرُونَ﴾ أي: لا يؤمنون بالبعث، ولا بالجنة والنار، فلذلك لما زال الخوف من قلوبهم، أقدموا على ما أقدموا عليه، مما يضرهم في الآخرة.
ولما ذكر الكافرين، ذكر المؤمنين، ووصفهم وجزاءهم، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بهذا الكتاب، وما اشتمل عليه مما دعا إليه من الإيمان، وصدقوا إيمانهم بالأعمال الصالحة الجامعة للإخلاص، والمتابعة. ﴿لَهُمْ أَجْرٌ﴾ أي: عظيم ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي: غير مقطوع ولا نافد، بل هو مستمر مدى الأوقات، متزايد على الساعات، مشتمل على جميع اللذات والمشتهيات.